(احتراقُ المحاصيلِ نقمةٌ أم نعمةٌ؟)

د. محمدزكي عيادة
بدأت
المقاطعُ وصورُ
الخَبرِ تنهالُ وقد سبقتها رائحةُ القمحِ المحترقِ، ومُزِجتْ بألحانِ الحزنِ،
وآهاتِ القلوبِ المفطورةِ على حالِ الجزيرةِ. يا له مِن مشهدٍ! حرائقٌ تنقضُّ على
جسدِها الطَّاهرِ، تنهشُ عَرَقَ أبنائها الذينَ استدانوا أو رهنوا أو باعوا ما
ملكوا؛ ليحصدوا اليومَ ما زرعوا. كَربٌ على كَربٍ! ضيقُ عيشٍ وهجرةٌ تنتهي بصياحٍ
وعويلٍ على أطرافِ الزروعِ المستغيثةِ، تُبصِرُ النارَ وهي تلتهمُ أحلامَ الغدِ
وأمانيَّ المستقبلِ، يرونَه غضبًا إلهيًّا يُمسكُ الأرزاقَ وينيخُ الأعناقَ!
تلسعهم نارٌ تحرقُ الودَّ، وتجرحُ الجِوارَ، وتسحقُ التعايشَ! 
دخانٌ غاشمٌ يتصاعدُ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ… وكأنَّها القيامةُ! يا له مِن حقدٍ أعمى ذاكَ الذي تعمّدَ إحراقَ تعبهم ليكوي قلوبهم، ويغرقَ عيونهم، ويكسرَ خواطرهم! بقيتِ الأحداثُ تترى حتى تعبت الجوارحُ مِن المشاهدةِ، فأسررتُ لنفسي: أوّاه يا جزيرتنا الخضراءُ أوّاه! ما أعظمَ مُصابك! فعلى مدى السنينَ والأيامِ وأنتِ تُطعمينَ غيركِ كالأمِّ الحنونِ، والآنَ تصطرخينَ وحيدةً وسطَ الجحيمِ دونما مُغيثٍ!… لَاحَ لي الاحتضارُ، وبدا لي أنَّ طعمَ الموتِ أرحمُ مِن الحياةِ في هذه الأرضِ التي استشهدَ فيها كلُّ شيءٍ حتى القمحُ والفَراشُ والكلام!
 وفي اللحظاتِ الأخيرةِ من هذا الشعورِ البائسِ تذكَّرتُ ما قاله لي معلِّمي يومًا: “إنَّ الأشياءَ مِن حولنا تتغيَّر بتغيُّر ألوانِ العدَسَاتِ التي نرى مِن خلالها”، فنزعتُ السوداءَ عن عيني، وتناولتُ البيضاءَ بلهفةٍ، وما إنْ غطّتِ العيونَ حتى توقَّفَ سيلُ الحزنِ فجأةً، حينَ رأيتُ أنَّ تلكَ النارَ المستعرةَ قد أحرقتْ شيطانَ السياسةِ الذي فرَّقَ بينَ الأخِ وأخيه، ومسحتِ الأحقادَ التي جعلتِ الجارَ غريمًا للجارِ، وأذابتِ العنصريَّةَ التي حوّلتِ الإنسانَ عدوًّا للإنسانِ، لقدْ رأيتُ تهافُتَ الجموعِ بكلِّ قوميَّاتها وطوائفها وعقائدها يجمعُها ألمُ المُصابِ، وجدتُهم يُلقونَ بأنفسهم إلى النارِ؛ كي يمنعوها عن غيرهم وليسَ معهم سوى خِرَقٍ باليةٍ يهوونَ بها على ألسنةِ اللهبِ المستعرةِ، أو مركباتٍ ضعيفةٍ يغامرونَ بها في تلكَ الحربِ غيرِ المتكافئةِ! ومَن لا يملكُ شيئًا في يده تجده يَتَلوّى قهرًا وخوفًا وحزًنا على نفسه وعلى النَّاسِ مِن حوله، عيونٌ يجمعها البكاءُ على وحدةِ المصيرِ بعد أنْ أرهقها التنافرُ والتدابرُ والتشاحنُ، دموعٌ باتتْ تسيلُ بدفءٍ لتغطِّي بنورِ الوعي والشِّيَمِ سوادَ الأرضِ المحروقةِ. تعالَتْ في جنباتِ تلك الأرضِ صيحاتُ تضرُّعٍ والتجاءٍ إلى الخالقِ المتصرِّفِ كانتْ قدْ غابتْ منذُ زمنٍ أو كادت، ولعلَّها تكونُ المنقذَ لأصحابها يومَ الحشرِ، ولعلَّ الحريقَ الغاشمَ يُطفئُ طمعَ القلوبِ، ويلينُ قسوتها، فيوقِظُ فيها حقيقةَ أنَّ الزكاةَ تطهُّرُ المالَ وتحصّنه بالفعل، وأنَّ الصدقةَ تدفعُ البلاءَ حقيقةً لا خيالًا، وأنَّ ما حدثَ سيُعلِّمُ الأجيالَ كيفَ يُحصِّنون أموالَهم وأفكارَهم، وكيفَ يدفعونَ عن أنفسهم وأهليهم البلاءَ والمكائدَ، فالنارُ التي أحرقتِ الزروعَ وبدّدتِ الأحلامَ هي مَن جمعتِ القلوبَ وزرعتِ الآمالَ، ولعلّها برغمِ قسوتها تكونُ بردًا وسلامًا على النفوسِ والعقولِ… وبَشِّرِ الصَّابِرينَ… .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…