حجي بلال.. أيقونة في عالم النضال والسياسة

إدريس سالم
إن تاريخ الحركة السياسية الكوردية في غربي كوردستان، الذي أصبح من حصّة النظام السوري وأدواته وحلفائه بموجب تَرِكة سايكس – بيكو حافل بقامات نضالية ثائرة، وشخصيات قومية وثقافية واجتماعية، التي تركت بصمات كبيرة وجوهرية في تاريخ تلك الحركة، وأحدثت تغييراً في الثقافة الاجتماعية ووعيها من سُبات الجهل والأمية والقمع المُمنهج، وأفنت حياتها في خدمة القضية والشعب الكوردي.
عند العودة إلى التاريخ السياسي والنضالي في ذاكرة مدينة كوباني المخضرّة بالأيقونات والقامات، والتحدّث عن النضالات السياسية والاعتقالات التعسفية والتعذيب النفسي قبل الجسدي في الأيام العصيبة، لا بدّ من تذكّر – بشكل مباشر – الشخصية الوطنية الكوردية المحبوبة بكلّ قوّة لدى الكبار والصغار، والمعروفة في الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية والتعليمية، وحتى من قبل الطلبة الجامعيين باسم «خالو»، هو المناضل حجي بلال، الذي يستحقّ أن يتصف بلقب «المناضل العنيد»، وأن يُكتب عنه رواية باسمه، واسم المناضلين الذين عملوا معه بكلّ صدق وشجاعة وإخلاص.
رجل كان دائماً ضدّ الفكر والتعصّب والجهل العشائري وعاداته السلبية، فلم يسبق أن زار مضافات العشائر الكبيرة، ومدح رؤساءها الكبار أو اختلط معهم أو طلب منهم تبرّعات مادية لخزينة الحركة الكوردية، ووقف في وجه إغراءات النظام السوري وتقديمه عدّة مرات مساعدات له، إلا أنه رفضها وبشدّة؛ لأنه يعلم الدوافع الدنيئة والحقيرة التي ستنتج عنها لاحقاً، والتي ستسيء إليه، وتفقد شعبيته، لتؤثر على قضيته، خاصة وأنه اختبر نظاماً مجرماً مستبدّاً عنصرياً.
يعتبر مثالاً للتضحية والنضال، وقومياً كالبارزانيين أو ربّما أكثر منهم «يقيناً». فهو لم يكن أسداً ولا فارساً، بل كان جبلاً شامخاً مرفوع الرأس والجبين، حاضراً في المكان والزمان المناسبين. يجوب كلّ المدينة وقراها، ليجمع التبرّعات والمستحقّات التي تترتّب على رفاقه في الحزب، والمعونات من المتضامنين المخلصين مع القضية الكوردية. ينام ليلاً على خشبة المسرح التي يعدّونها في جبل مشته نور، ويحرس ما عليه من عُدّة إقامة احتفالية نوروز القومية، ليكون آخر مَن يغادر مكان المسرح.
أيّد الفكر اليساري في الستينيات، بانتمائيه القومي الطبقي والوطني، فانتسب في شهر كانون الثاني من عام 1971م – بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية – إلى صفوف الحزب اليساري الكوردي في سوريا بقيادة صلاح بدر الدين، ومعه آنذاك رفيقاه حسين حبش ونعسو جمو.
عاصر “خالو” فترة الانشقاقات الحزبية، فهو شخصياً لم يكن يوماً مع الانشقاقات، مهما كانت أسبابها وأهدافها، ومن خلال متابعته وعمله يرى أن الأحزاب المنشقّة لم تقدّم أيّة خطوة جديدة وإيجابية عن الحركة الكوردية الأم ونشاطاتها، بل زادتها شرذمة وفوضى اجتماعية ومناطقية، فخلال مسيرته الحزبية كان دائماً يقف إلى جانب الحزب الأم، ولم يكن مع ظاهرة الانشقاقات، وكان يحاربها ويقف في وجهها، حتى أن الكاتب والسياسي الكوردي صلاح بدر الدين كان يقول “إن كان خالو موجوداً داخل الحزب الأم فالحزب بألف خير”؛ لمعرفة حجي بلال وإدراكه بأن قوّة الحركة الكوردية تكمن في وحدتها لا في تعدّدها.
عمل لسنوات طويلة في اللجنة المنطقية لحزب آزادي الكوردي، أقام ندوات سياسية واجتماعية، ونظّم الاجتماعات وأدارها، كان متواجداً في كل خيمة لعزاء رفيق أو شهيد أو أيّ شخص يعرفه، وبعدها لأسباب صحية ولعدم قدرته على القيام بواجبات اللجنة المنطقية بقي عضواً فرعياً، وظلّ يقدّم الاستشارات الحكيمة لرفاقه في المنظمة، إذ معظم رفاقه كانوا يعتبرونه مستشاراً حكيماً لمنظمات الحزب في كوباني وعفرين.
تعتبر مرحلة الثمانينات بداية لانتشار وانتعاش الفكر اليساري السياسي الماركسي – اللينيني، فعندما عمل حجي بلال في المجال السياسي مع مجموعة من رفاقه أمثال صالح جعفر وفَندي فَندي ومصطفى عتي وروني علي وشاهين أحمد ومحمد عبِه رَش وآخرين، كان النضال الحزبي في كوباني عام 1985م في أوج قوّته وصلابته، لدرجة أن الناس والشارع بدؤوا بالاستفسار عن مسؤولي هؤلاء الحزبيين، حيث كان يدير الشباب أفراداً وجماعات وهيئات تنظيمية بكلّ روح حماسية وإرادة شجاعة، دون أن يحسب حساباً للفروع الأمنية الكثيرة والمنتشرة في حارات المدينة، كالأمن السياسي والعسكري والجوي، إضافة إلى أعوانه من العرب والكورد.
حقيقة كان روحه مفعمة ومولّهة بالشباب المثقف والواعي؛ لقناعته بأنهم نواة المستقبل، إذ كان يقول للجيل الشاب المتعلّم والمثقف أنه يجب أن يتعلّم منهم ويستفيد ويزيد من ثقافته وخبرته في مجال الكتابة والقراءة واكتساب أكبر قدر ممكن من المعرفة وقدرات التأثير «لأنه لم يكمل دراسته، فكان بحاجة إلى الشباب، ليستفيد منهم ويفيد غيره»، وعلى هذا الجيل أن يتسلّح بالفكر السياسي والوعي القومي والمعرفة والثقافة، وأن يكون ملمّاً بالتاريخ والجغرافية والثقافة الكوردية وفنّها وتراثها، مؤكّداً أن هذا الجيل بحاجة ملحة في الوقت الراهن إلى مدرسة حزبية واقعية سليمة من كلّ شوائب التحزّب الأعمى والولاءات والأجندات وإغراءاتها، ليكون جاهزاً حاضراً على حمل الهمّ الكوردي وقضيته.
استدعي حجي بلال واستجوب واعتقل مراراً وتكراراً من قبل الفروع الأمنية السورية، فقد اعتقل مرّتين؛ لمواقفه السياسية الثابتة ونضاله في سبيل قضيته الكوردية. في المرّة الأولى اعتقله فرع الأمن العسكري في المدينة، على يد رئيس مفرزة الأمن العسكري المعروف آنذاك باسم (أبو الفِدا)، وفي المرّة الثانية اعتقل عام 1993م من قبل بلدية المدينة بتهمة تهريب الحليب والدخان، وأن المواد التي يبيعها في الدكان مهرّبة وغير مسعّرة، فيما لاحقاً وأثناء التحقيق معه في مدينة منبج تبيّن أن التهمة سياسية، وأنه عضو في حزب اتحاد الشعب الكوردي وهو السبب الذي اعتقل من أجله، ورغم التعذيب النفسي والجسدي لم يعترف بأيّ معلومة صغيرة عن حزبه ورفاقه ونشاطاتهم، وفي كلّ مرّة يتمّ فيها إطلاق سراحه يزداد قوّة وثقة بالنفس ويعود للنضال بكلّ حماس وإرادة.
كان من الداعمين والمؤيّدين للانتفاضة الكوردية التي اشتعلت أولى شراراتها في مدينة قامشلو عام 2004م، حيث خرج مع عائلته والأحزاب والمثقّفين والجامعيين في مظاهرات رافضة للممارسات الشوفينية التي مارسها النظام بحقّ مدينة قامشلو، ووصل في عطاءاته حتى اشتعال الثورة السورية، إذ كان من دُعاة الحرية وانتزاع الحقوق الكوردية، فخرج في كلّ مظاهراتها ومناسباتها، وطالب بتوحيد الخطاب السياسي الكوردي، حتى يستطيع السياسيون أن يقدّموا شيئاً لشعبهم وقضيتهم، وأن يكون الكورد معارضة مستقلة، دون أن ينضمّوا في إطار المعارضات السورية الأخرى، كالائتلاف وهيئة التنسيق والمجلس الوطني السوري.
لا شكّ أنه تعب وعانى القمع والظلم والاضطهاد لأجل يوم الاستفتاء التاريخي الحقيقي، ففي تواصل معه، عبر الهاتف، تحدّثت عن حياته المهنية وعلاقاته بأصدقائه والشباب، خاصة وأن استقلال كوردستان وتحريرها من محتلّيها كان حلماً يراوده منذ أن دخل عالم السياسة ودوّاماتها، لدى سؤالي عن رأيه وموقفه من استفتاء إقليم كوردستان، أجابني ببكاء خرج كصرخة قاتلة من أعماق وجدانه وروحه، صرخة أحرقت أعصابي ولا زالت تنخر في ذاكرتي «مَن يسمع صرخة بكاءه سيدرك معنى قيمة الظلم والقمع، ولن يستطيع أن يسمع بكاءه مرّة أخرى»، شعرت بخوف كبير، فنبّهني أبي أنه يعاني الشيخوخة ومن أزمة قلبية، وأن أتمهّل عليه، أكّد بأن هذا الحدث التاريخي كان حلم الجميع، وأنه عندما كان يستمع إلى أغاني كاويس آغا كان يرى كوردستان أمام ناظريه، وقد أوردت كلاماً منسوباً إليه في مقالة كتبتها عن الدول المعارضة لاستفتاء واستقلال كوردستان بعنوان “عسكرة الكراكوزات لن تحيي جثة سايكس – بيكو”، حيث قال “بالاستفتاء عرف الكورد أعداءهم وأصدقاءهم، وهو ما سيرسم خارطة العلاقات والتعاونات معهم في المستقبل”.
يعتبر حجي بلال «خالو» نموذجاً من النماذج النضالية التي لا يمكن تجاهلها، فهو من الأرْعال السابقين في الحركة الكوردية، والإعلام الكوردي أهمله بشكل كبير ومخجل، وقصّر معه ولم يعطِه حقّه وحقّ غيره من المناضلين الأصلاب، فهو رقم صعب في المعادلة السياسية والذاكرة الكوبانية العريقة والأصيلة، معروف بمواقفه ومبادئه الثابتة والعنيدة، يعتبر نفسه دائماً جزءاً أساسياً من المسؤولية ويتحمّل أخطاءه، ولا يضع المسؤولية على عاتق غيره، في حال وجود خطر أو فشل، يبذل قصارى جهده ويضحّي دون أن ينتظر جميلاً من أحد، وضع كلّ إمكانياته المادية والمعنوية من بيته وعائلته وعمله في سبيل خدمة القضية الكوردية والتنظيمات الحزبية.
يتصف بتواضعه الاجتماعي، ومرونته، وهدوئه، ونزاهته التي قلّ مثيلها، وأخلاقه العالية بين أبناء المنطقة، أمنيته الأخيرة هي تكاتف قطبي الحركة السياسية في غربي كوردستان، على مبدأ الكوردايتي وبناء خطاب موحّد ومشروع يخدم تطلّعات الكورد، حيث أكّد في وقت سابق لصحيفة «Dilname» الكوردية “عندما يكون هناك كتلة كوردية واحدة متجانسة ومتفقة، فسيكون جميع الأنظار موجّهة إليها، ومن جميع الأطراف السياسية في الداخل والخارج، وتترك أناها وتتوجّه إلى تحقيق مطالب الشعب الكوردي، وهذه الفرصة نادرة جداً، ولن تكرّرها التاريخ ثانية، ويجب أن نعمل للمصلحة العامة وليس للمصلحة الخاصة”.
لم يتحمّل مشقّة العيش كلاجئ في مدينة مرسين التركية، أثناء حرب تنظيم داعش على كوباني وحالة اللجوء والنزوح القسريتين، فعاد إلى مدينته فور تحريرها وانتصار الكورد على الإرهاب والتطرّف، إذ أقام فيها مع زوجته وبعض من أبناءه، وعمل في دكّانه الذي تعرّض للقصف، حتى تدهورت حالته الصحية، إذا تعرّض إلى مضاعفات في القلب والدماغ وأماكن أخرى من جسده، ما نُقل على إثرها إلى مشفى كوباني ووضعه في العناية المشدّدة، وبعد سوء حالته نقل إلى مشافي قامشلو، ومن هناك إلى مشافي إقليم كوردستان، بعد إكمال إجراءات العبور.
نداءً يتساءل المواطن الكوردي في شارعه المخنوق، ويوجّه أسئلته إلى الإدارة الحالية التي تدير غربي كوردستان بمجمل مجالات الحياة، والتي تمتلك المال والسلطة والوسائل التنفيذية، إذ وضعت خزائنها في خدمة تعبيد الآلاف من الطرق، وتشييد الكنائس في مدن خلت من أبناء السيد المسيح، وفتح مجمّعات سكنية ضخمة.. ألا تملك قليلاً من المال لتطوير قطاعها الصحي، واستحضار أطباء مختصّين وأجهزة متطوّرة وأطباء؛ للعناية بذاك المواطن، دون الحاجة في أن يُنقل من مدينة إلى أخرى؛ لإجراء تحليل دم أو طبقي محوري أو فحص شامل لكامل الجسم؟! هو سؤال يورّق بال الكثيرين!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…