ماجد ع محمد
“ألا لا يحاولن حياةً مَن لم يتأدب بعدُ بآداب الضحية”
إميل سيوران
الضحية ههنا لا نعني بها الذبيحة أو القربان وفق المنظور والثقافة الدينية، فالضحية هنا إنسانٌ حي أُرغم على أن يكون ضحية اقتصادية مثل الآلاف من أبناء سورية، ولم يختارها قط، ومن كل بد أن الضحايا نماذج وأشكال وصور وألوان كثيرة لا تُحصر في مادة مؤلفة من بضعة أسطر، ولا شك أن التضحية قسراً بصحة الآخر أو بجسده أو بماله هي من أزنخ المقابح، بينما تكون مدعاة للاحترام والتقدير والإشادة إذا ما كان صاحبها ومن تلقاء ذاته مضحياً بكامل الإيمان والمحبة.
وكما يغدو بعض الفقراء ضحايا استغلال الأغنياء، فالغني قد يصبح ضحية جشع الاستحواذ لدى غني آخر، وربما كان المرء ضحية من خلال جهله بنوايا ومآرب من يستغلونه، يشغلونه وهم يستثمرون قدراته الفنية أو الفكرية أو العقلية أو العضلية، وقد يشعر المرء بأنه كان ضحية جهة سياسية أو اقتصادية بالغت في استثمار جهده أو علمه أو موارده وهو غافل عن كل ذلك بناءً على بساطته، أو بسبب الستارة الأيديولوجية التي أسبلت أمام نواظره لسنواتٍ طوال، أو يرى الفرد/ة بأنها وأنه كان ضحية الصبابة وهوى القلب، وبهذا الصدد ذكر أحوال بعضهم الدكتور عائض القرني في كتابه المسمى “ضحايا الحب” متحدثاً فيه عن العشاق وقتلى الحب، متناولاً الجوانب المشرقة من الحب والجوانب الحزينة فيه والوقوف على أطلالهم؛ كما أن صاحب الدخل المحدود الذي يوفر في الشهر كله مئة ليرة تحسباً لصروف الزمان وغدراته، وبعد مضي شهور وسنوات من الادخار المر مع حرمانه نفسه من الكثير من الملذات، حتى يقي ذاته من الحاجة للآخرين، وهو على ذلك الحال فيأتي من يخدعه بموضوع سفرٍ خارجي أو بمشروعٍ تجاري أو صناعي، فيفقد من ورائه كل ما كان قد ادخره منذ سنوات في لحظات، فهو خير ضحية من ضحايا الطيبة الزائدة أو الطمع الزائد أو ضحية خبث الآخرين وأحابيلهم.
أما نموذج الضحية التي نحن بصددها هو من نمط آخر، حيث يتحدث الرجل الضحية بلسانه، لسانٌ يتحدث بحُرقة عما ألم به، فالضحية هنا هو ضحية الأطراف السياسية والعسكرية، ضحية الصراعات الدولية، ضحية توزيع مناطق النفوذ بين الدول، وكما كانت الإعلامية مي شدياق الشهيدة الحية في لبنان، فلدينا في سورية ما عدا الشهداء المئات بل الآلاف من الضحايا الأحياء.
مواجع السرد لدى الضحية مصطفى حسين كردي:
يتحدث الرجل بحُرقة قلبٍ طعنه مصالح الدول وغباء أدواتها في الداخل السوري، وحيث سبق للكثير من الفلسطينيين أن ذاقوا مرارتها، عندما احتلت المافيات المدعومة من السلطة الاسرائيلية بيوتهم، فـ: مصطفى حسين كردي الذي ظهر في فيديو مصور نشر منذ أشهر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي” الفيس بوك” وأعيد نشره مراراً من قبل أبناء قريته وأبناء القرى المجاورة لقريته، هو من ضيعة تسمى “قرمتلق” الواقعة على الخط الحدودي الفاصل بين سورية وتركيا من جهة كرداغ، وهي تتبع ناحية شيخ الحديد şiyê)) التابعة بدورها لمنطقة عفرين (çiyayê kurmênc) وفق تسمية أهل المنطقة أو kurdax) ، كرداغ) حسب التسمية العثمانية، وقد تهّجر مصطفى حسين كالآلاف من أبناء المنطقة بعد أن شنت الدولة التركية الهجوم مع فصائل من السوريين على المنطقة بذريعة محاربة وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره تركيا حزباً إرهابياً، وبعد غزو المنطقة في العام الماضي والسيطرة التامة عليها في 18/3/2018 خرج حسين وغيره من بيوتهم خوفاً من أن تنال منهم نيران القتال بين الجهات المتحاربة أو يكون قربان الانتقام، وحيث أن كل من خرج من بيته وحتى المقيم غدا متهماً بالانتماء إلى السلطة السابقة للمنطقة، من قبل الذين أطلقت تركيا يدهم في عموم المنطقة، لتغدو لهم ببلداتها وقراها وكأنها حقل مشاع يُسمح لهم بارتكاب أقبح موبقاتهم فيها، ولأن حسين لم يجرؤ على العودة إلى بيته خوفاً من الاعتقال أو التعرض للإذلال والابتزاز من قبل الهمج المسيطرين على قريته، ولأن شوق الديار دب بجوارحه فقطع مسافة آلاف الكيلومترات حتى يحظى بلقية ملاعب طفولته وشبابه، ولكن الموجع أنه بعد أن قطع كل تلك المسافة لكي يحظى برؤية بيته من الجانب التركي، ففي يوم صعوده على الجبل المواجه لممتلكاته كان الطقس غائماً فحرم حتى من مشاهدة منزله ومسقط رأسه عن بُعد!
وقد عبّر الرجل في سياق المقطع المصور عن حبه الجم لتراب قريته وهو يستنشق فوح الأديم، متذكراً بأنه عاد من رومانياً إلى إلى حلب، ولأن طريق العودة من حلب الى عفرين مقطوعة وإن وجدت بعض المعابر فهي محفوفة بالمخاطر، لذا رجع من حلب إلى رومانيا، ومن رومانيا جاء إلى اسطنبول التركية، ومن اسطنبول سافر إلى مدينة غازي عنتاب، ومنها قصد قرية تدعى يلانقوز، وهي على الحدود السورية التركية من الجانب التركي، وذلك حتى يحظى بالنظر إلى قريته من بعيد بما أنه ممنوع من العودة إليها، لكونها محتلة من قبل عناصر من الفصائل الذين أفلحت تركيا في استخدامهم لتحقيق مآربها في عفرين، حيث بدا أنه من آلام مفارقة الديار وفقدانه لكل ما جناه طوال عمره متحدثاً إلى نفسه في الفيديو، تائهاً لا يدري إن كان الذي حصل له خيال أم واقع، قائلاً: بأنه من التيه لم يعد يعلم إن كان عاقلاً أم مجنوناً، متذكراً بعض مقتنياته التي سُلبت في غيابه، منها: منزله الكبير، سيارته الخاصة، جراره الزراعي، معصرة الزيتون، وكامل موسمه من أراضيه وكرومه، مختتماً الفيديو بجملٍ تسبب الحرقة في الحلق لكل من يمتلك الاحساس وهو يستمع إليه، متصوراً حين الاستماع وكأن ما جرى للرجل في المقطع المصوّر جرى له أيضاً.
ويبقى أن أكثر ما كان موجعاً بالنسبة لي كمتلقي هو ما ورد في ختام الفيديو، وذلك في اعتذار الرجل الضحية، ليس طبعاً ممن استحوذوا على بيته وممتلكاته كلها، إنما من مشاهدي الفيديو، وخشيته من أن يكون قد ارتكب أي خطأ بالذى باح به لهم، مختتماً المشهد بحشرجة حارقة منعته من استكمال كلامه (قصته)، ولا أنكر بأني سأكون ممتناً جداً حين يسعى القارئ إلى اتمام عمارة السرد عوضاً عن الرجل الذي أجبرته المواجع على السكوت.
وبعد عرضنا لقصة القربان الحي، نؤكد للقارئ بأننا لا ننظر قطُ إلى مفهوم التضحية الطوعية بمنظور سلبي، فأن يضحي الكائن البشري بالإنسان كما فعل بعض الأوباش مع الشخص في هذه المادة شيء، بينما أن يضحي المرءُ بما كان نفيساً لديه، بماله أو بوقته أو بجهده أو بنفسه من تلقاء ذاته حباً وطواعيا شيءٌ آخر، بل نرى بأن التضحية حباً ميزة لا يرتقي إليها إلاَّ من استطاع كبح جماح شهواته، وتحّكم بها ولم يجعل ملذات الدنيا وإغراءاتها تتحكم به وتسوقه كما تسوق الغريزة البهائم، لأن التضحية ببعض ما في النفس من أجل قضية أو فكرة أو مجموعة أو مجتمعٍ برمته واردة وقد تكون محمودة في أغلب المجتمعات، والتضحية بالمصلحة الشخصية من أجل المصلحة العامة سمة غير مشينة، كما أن التضحية باللحظات الآنية والعابرة كرمى أهداف وأغراض سامية تتجاوز جشع وسطوة الأنا المريضة، هي حالة راقية بلغها الكثير من المتصوفة والفلاسفة والقديسين قبل الإنسان المعاصر بمئات السنين.