الكورد والاستقلال

جان كورد
دأبت ماكينة الإعلام في الأحزاب المختلفة، واليسارية منها خاصةً، في الدول المقتسمة أرض كوردستان، على  التنكّر لحق الأمة الكوردية في الحرية والاستقلال، فقمعت على الدوام بمختلف طاقاتها المادية والمعنوية كل حراك كوردي عاملٍ من أجل الاستقلال، ورصدت لقمعها الأموال الطائلة والجيوش بسائر أسلحتها وعنفها ووحشيتها في التعامل مغ الشعب الكوردي، بل استخدمت حروب إبادة بحق هذا الشعب ومن أشهرها حرب “الأنفال” في عهد صدام حسين “أبو الجحور”، إضافة إلى استخدام الأسلحة الممنوعة دولياً ومنها السلاح الكيميائي، وموجات الإعدامات المتتالية والتهجير والدفن حياً في الكهوف و رمي المدنيين مربوطين داخل أكياس في الأنهار، وقصفهم بالطائرات والفوسفور والنابالم، وسلسلة الجرائم ضد الإنسانية في كوردستان طويلة لا مجال لذكرها في هذا المقال. إلا أن أخطر الأسلحة التي تم استخدامها من قبل أعداء هذه الأمة المستضعفة هو “إقناع” أغلب زعماء الكورد بأن “الاستقلال حلم” رغم أنه “هدفٌ نبيل” تكافح شعوب الأرض المضطهدة من أجل نيله وهي مستعدة لتقديم التضحيات الجسام في سبيل ذلك، 
واستمرت هذه الحال منذ القضاء على جمهورية “كوردستان” التي كانت عاصمتها مهاباد في عام 1946-1947 وإعدام رئيسها الشهيد قاضي محمد، إلى حين إعلان رئيس اقليم جنوب كوردستان السيد مسعود بارزاني عن عزمه على إجراء استفتاء ديموقراطي ليدلي من خلاله الشعب الكوردي في الاقليم بصوته وليقرر ما إذا كان مع البقاء ضمن حدود الدولة العراقية أم يريد الاستقلال والعيش كجارٍ من جيران العرب والعراق، فثارت ثائرة الدول المقتسمة لكوردستان وشرع أعداء الكورد في إطلاق التصريحات الخطيرة، منها الاجتياح العسكري وتجويع الملايين من  المواطنين وإغلاق المنافذ الحدودية والمطارات ومنع تدفق البترول و… و… وكأن السيد الرئيس مسعود بارزاني ارتكب جريمة، في حين أن الاستفتاء حق مشروع وشورى (وأمرهم شورى بينهم) أي عودة إلى الشعب الذي هو صاحب القرار الأخير شرعاً وديموقراطياً، فنسي الإسلاميون شرعهم الذي يتسترون به في كل حين ونسي الديموقراطيون مبادئهم وقيمهم التي يتفاخرون بها. ولم يكتفوا يهذا بل عمدوا إلى تحريك الخونة وعملائهم في كوردستان للقيام بنحر  الاستفتاء الذي نجح بنسبةٍ تزيد عن 92% من أصوات الناخبين الكورد، فجاءت خيانة 16 أوكتوبر لعام 2017 لتزيد في الطين بلّة، مما أضطر  الساعون من أجل تنفيذ قرار الشعب الكوردي إلى التراجع خطوةً عما عزموا على إجرائه، نطراً لأن المصالح البترولية والاستراتيجية لبعض الدول الكبرى لم تجد الاستقلال الكوردي في هذه المرحلة في خدمتها فقررت الوقوف ضده، رغم أنه كان إجراءاً ديموقراطياً ومدنياً وسلمياً بدرجة عالية جداً. 
وقبل ذلك في شمال كوردستان تراجع المنادون بالاستقلال عن معظم أهدافهم الكبيرة ليدافعوا عن “وحدة التراب التركي” بعد أن كانوا يتهمون المطالبين ب”الحكم الذاتي” بالخيانة للوطن والقومية والثورة. بل تنازلوا حتى عن كل مطلب يتضمّن حقاً قومياً صريحاً للشعب الكوردي، ولا نريد الدخول في التفاصيل والأسباب هنا لضيق المجال، فالحديث سيتشعّب. 
فهل يعني هذا، أن القيادة الكوردية الشجاعة في اقليم جنوب كوردستان ارتكبت خطاً استراتيجياً، أم أن هذا الاستفتاء الذي دعت إليه وأجرته رغم كل تهديدات الأعداء وتحذيرات الأصدقاء دليلٌ ساطع وواضح على أنها تحظى بتأييد الشعب الكوردي بنسبة 92% وأكثر، وتدرك جيداً مايريده هذا الشعب، ألا وهو “ممارسة الحق في الاستقلال”؟ وفي الحقيقة يدرك العالم كله أن الأمة الكوردية لم ولن تتخلى عن هدفها في الحرية والاستقلال، رغم كل الحروب التي عانت منها وحملات القمع والاضطهاد التي تعرّضت لها عبر تاريخها الطويل، ولذا، فإن العالم لايمكن أن يدير ظهره لمطلب الأمة الكوردية الأساسي إلى الأبد وسيقف معها في سبيل تحقيق هذا المطلب العادل مستقبلاً.
فأين تكمن المشكلة؟
المشكلة تكمن في عدم تمكن الزعماء السياسيين من طمر خلافاتهم الحزبية التي تكاد لا تختلف عن خلافات العشائر الكوردية في القرون الماضية، وهي تناحرات أججها المستعمرون والمعادون لكل طموح كوردي في إدارة الذات والتمتّع بخيرات الوطن الكثيرة والغزيرة… نعم، لقد سعى المستعمرون ليس لإظهار الهدف القومي السامي لأمتنا ك”حلم” فحسب، بل لتأجيج النزاعات الداخلية في الحركة السياسية في سائر أنحاء كوردستان بخبث ومكر ووضعوا خططاّ بعد خطط لتعكير الأجواء السياسية الكوردية عن طريق شراء الذمم وصرف الأموال الطائلة على ضعاف النفوس وتصويرهم كزعماء وقادة أكراد، وما هم سوى حفنة من الخونة وبائعي ضمائرهم والراكضين وراء أسيادهم عساهم يحصلون على مناصب لديهم، وهم غير آبهين بأهداف أمتهم وحقوقها ومطالبها وباستشارتها واستفتائها. بل يظهرون على شاشات التلفزيون مفتخرين بخيانتهم التي لن ينساها الكورد وسيحاسبونهم عليها عندما يحين الأوان.
فما العمل؟ 
بالتأكيد ليس سهلاً أن تجمع  كل حركات وقوى شعبٍ من الشعوب على هدفٍ واحد، إلاّ أن على المؤمنين بحق الأمة الكوردية في الاستقلال ألا يتهاونوا ولا يهنوا، فالقافلة يجب أن تستمر في سيرها، فالأوساط الدولية بدأت تتفهّم أسباب ثورات الكورد وصراعهم مع الدول المستبدة بهم، ومصالح بعض الدول سترغمهم على أخذ الموضوع الكوردي في الحسبان، وبخاصة بعد أن أثبت الكورد قدرتهم على دحر الإرهاب الذي تعلم هذه الدول أنه خطر يهددها جميعاً ولولا صمود المقاتلين الكورد في سنوات الحرب على الإرهاب في سوريا والعراق لانهارت السلطة السياسية في البلدين ولتحوّلتا إلى أفغانستان كبرى في منطقة تعتبر هامة جداً لكل من الدول الغربية وروسيا. وبسبب هذه التحولات الكبيرة في موازين القوى، فالكورد يبدون اليوم أصدقاءً للعديد من النظم السياسية على المستوى العالمي وفي منطقة الشرق الأوسط أيضاً، لذا يجب على الاحزاب والمنظمات الكوردية المختلفة إيجاد قاسم مشترك فيما بينها يتلخّص في الاعتراف بأن “الشعب هو المرجعية الأولى”، وطالما الشعب يريد الاستقلال فما على هذه القوى التي تجد نفسها في موقع المسؤولية سوى العمل في هذا الاتجاه وضمن تشكيلة الجهات السياسية والثقافية والاعلامية التي تتبنى فكرة أن ما يقرره الشعب هو الأساس، وهذا يعني تخفيف وطأة الأحداث والمشاكل التي يمكن أن تعرقل المسار المشترك في الاتجاه الصحيح. ولا بد من خلق “تيار رئيسي” هدفه الاستقلال يضم أكبر عددٍ ممكنٍ من القوى والفعاليات الشعبية – الاجتماعية المؤمنة بالاستقلال وتحريكها أو تفعيلها في المدرسة والمعبد والحزب والشارع الكوردستاني عموماً. 
الاستقلال لا يمنحه أحد لنا، وإنما علينا انتزاعه باتحاد قوانا الوطنية المخلصة، وهو حقّ شرعي ومشروع لأمتنا لايحق لأي حزبٍ من الأحزاب التفريط به أو رفضه أو معاداته لأسبابٍ حزبية أو لمصالح مبتذلة.  وقرار  إجراء الاستفتاء الذي أصر السيد الرئيس مسعود بارزاني على إجرائه، كان ولا زال صائباً، مهما كبرت التحديات واشتدت الأزمات وتكالب الأعداء ضد إرادة الأمة الكوردية.  
‏21‏ نيسان‏، 2019   
kurdaxi@live.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…