حول «ظاهرة» الانشقاقات في الأحزاب الكردية

أكرم حسين 
تعتبر ظاهرة الانشقاقات في الأحزاب الكردية السورية من «أهم» الظواهر الشائكة والمعقّدة عبر مسيرتها الطويلة، وقد تناول الموضوع العديد من الكتاب الكرد، وكتبوا أبحاثاً عديدة ، لكني سأحاول أن أقدم وجهة نظري عبر هذه الكتابة السريعة والمختصرة والتي قد «تحتمل» الخطأ أو الصواب، لكني اعتذر سلفاً من كل من قد يمسُّهم الموضوع أو يسيء إلى تاريخهم النضالي، لأنها تبقى ضمن «وظائف» الكتابة التي لا تستحي ولا تجامل …!
لم «تتوقف» الانشقاقات في الأحزاب الكردية السورية منذ تأسيسها وحتى الآن، بل تحولت الانشقاقات الى «ظاهرة» تستحق التوقف عندها ، ومعرفة أسبابها ومنع تكرارها واستخلاص الدروس والعبر منها، لكنها للأسف لم تلق المعالجة الكافية، رغم ان«تاريخ» الاحزاب الكردية هو «تاريخ» انشقاقاتها، لا بل «تاريخ» أمنائها العامين، بسبب الدور المركزي الممنوح لهم، والذي قد يشكل أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى «شخصنة» الحزب وخلق أزمات فيه، ووَقَفَ خلفها في معظم الأحيان أشخاص عَجِزوا عن «زحزحة» النواة القيادية الصلبة من مكانها «فاضطروا» اللجوء الى الانشقاق سبيلا ..!
لقد تأسس أول حزب كردي في كردستان روجافا عام 1957 وكان ذا قاعدة جماهيرية واسعة، وهيمن على الساحة السياسية الكردية رغم نشاطه السري إلا أن انشقاقه عام 1965 ادى الى ظهور حزبين رئيسين عُرِفا اختصاراً في حينه باليمين واليسار، وكان الحدث ضربة موجعة ليس الى الحزب الأم فقط، بل إلى مجمل النشاط القومي الكردي، ثم تتالت الانشقاقات في الحركة السياسية الكردية، وانقسمت الأحزاب على نفسها الى ان وصلنا الى عدد من الأحزاب يتجاوز المائة، بعضها شخصية او عائلية لا يزيد عدد اعضائها عن اصابع اليدين، وليس لها أي دور او اثر في الواقع العياني الملموس ..!
ان اهم اسباب الانشقاق في الاحزاب الكردية يكمن في البنية الاجتماعية والعشائرية، وفي الكيفية التي تبلور فيها الفكر الحزبي الكردي، وانعكاساته على واقع الممارسة الحزبية خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، فالأحزاب الكردية نشأت على أيدي شخصيات «اقطاعية» او «دينية» وفي سياق« قومي» لمواجهة اضطهاد النظام الحاكم، وقدمت نفسها على انها تمثل مصالح «عموم» الشعب الكردي لا كممثلة «لشريحة» اجتماعية تتقارب رؤاها وأهدافها السياسية والاقتصادية، واعتمدت على مبدأ «الاجماع » الذي «يرفض» كل اختلاف والتضحية بالمشروعية «الديمقراطية » تحت عنوان العمل السري وصعوبة المرحلة وحساسيتها! اضافة الى البناء التنظيمي الستاليني، والذي ترجم في الواقع الى «سيادة» ثقافة الهيمنة والإقصاء والاستخدام «السيئ» للمركزية الديمقراطية، وتحت هذا «العنوان» مورست مركزية «مطلقة» لم تسمح في ظلها ببروز أي اختلاف، وتحوّلت الأحزاب إلى تنظيمات «مغلقة» تعيد سلوكيات الولاء والطاعة العمياء ..!
وصار العديد من قادة الأحزاب ينظرون الى الحزب «كمنشأة» خاصة، ويرفضون أن يخلفهم أشخاص أكفاء، مما أدى الى «تغييب» الديمقراطية الداخلية والحوار «المنتج »البناء ..!
لقد «فشلت» اغلب الأحزاب – بما فيها تلك التي انشقت عن احزابها – في «تنفيذ» برامجها وانتزاع حقوق الشعب الكردي، وبقي نشاطها «محصوراً» ضمن المجتمع الكردي رغم تبنيها لشعار الاخوة العربية الكردية، دون ان تقدم «جديداً» عن الحزب الذي انشقت منه، حتى باتت عبارة عن مجموعة صغيرة لا تؤخر ولا تقدم في ظل الواقع السياسي الكردي المعقد والمتناقض، وعدم إمكانية العمل فيه بحرية ..!
وبسبب البنية «المغلقة » للأحزاب القائمة تأسست أحزاب جديدة دون ان يكون هناك أي سبب سياسي او اجتماعي الا «اغلاق» الباب في وجه من يطمح الى ممارسة العمل القومي الكردي، لان وجود الشخص خارج الحزب يعرضه الى الإهمال واللامبالاة، ويدفعه الى البحث عن دور، وتشكيل حزب جديد ..!
لقد وجد الانشقاق رغم عدم «ربطه» بالاستراتيجيات السياسية أرضية خصبة له في البنية الاجتماعية الكردية، لان التخلف والجهل والفقر وتدنّي الوعي، وممارسة الدكتاتورية ضد قواعد الحزب، هي عوامل أساسية في حدوث الانشقاقات، وقد تكون الفردانية، وتغليب المصلحة الخاصة أو عدم عقد المؤتمرات خلال فترة طويلة هي الاخرى من العوامل التي تسرع وتسهّل، لا بل تخلق الارضية المناسبة لحدوث مثل هذه الانشقاقات، خاصة إذا ما اجتمعت مع  بعض النزعات «الزعاماتية» لدى البعض. فالأحزاب التي نشأت في سياق ديمقراطي، وارتبطت بالعملية «الانتخابية» من جهة وبالمؤسسات «التمثيلية» من جهة أخرى، تكون عادة اقل عرضة للانشقاق، وهنا لا بد من أن نتحدث، ونميز بين ثلاثة انواع من الانشقاقات التي حدثت ضمن صفوف الحركة الكردية السورية، بعضها يرتبط بشكل بعيد «بطموحات» بعض الاشخاص الى «الزعامة السياسية»بينما بعضها الاخرى كانت تقف ورائه السلطة السياسية وأجهزة الامن والمخابرات ، عبر شراء «الذمم» وضرب مسيرة الكرد النضالية وخلق مشاعر الفشل والإحباط، بينما البعض الآخر له علاقة بنوع من الفرز «السياسي » وهو يكاد قد ينعدم …!
اليوم لابد من حدوث «تحول» حقيقي في مسار الحزب السياسي الكردي سواء على مستوى «اعادة» الهيكلة او «التخلص» من الايديولوجيا او«تغيير» المرجعيات التنظيمية التي اصبحت لا «تلائم» التطور البشري في الاجتماع والعمل المنظم، نحن بحاجة إلى احزاب «ترتكز» قياداتها على المشروعية الديمقراطية و«تحترم» الاختلاف، كتجسيد واقعي «للتعددية» السياسية والفكرية والمجتمعية، وفي غياب هذين الشرطين، لا يمكن الفكاك من «أفخاخ» الانشقاق، لأن فيهما«يكمن» السر ..!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدر الدين تدعو الكاتبة سميرة المسالمة، في مقالها “مواطنون في دولة سورية… لا مكوّنات ولا أقليات” (“العربي الجديد”، 22/12/2025)، إلى “مجتمع من المواطنين… يتحرّرون من الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الأسدي باستعادة دورهم ذواتاً فاعلةً، وبناء الثقة المتبادلة فيما بينهم، من خلال تعريف أنفسهم شعباً واحداً لا مكوّناتٍ ولا أقلياتٍ متفرّقة، وتعزيز هُويَّتهم مواطنين لا رعايا”. وتضيف: “فالجماعات الإثنية،…

صلاح عمر في لحظة يفترض أن تكون مكرّسة لرأب الصدع الوطني، وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والاستبداد، يطلّ خطاب الكراهية من جديد، أكثر حدّة ووقاحة، موجّهًا هذه المرّة ضد الكورد في سوريا، كأن التاريخ لم يعلّم أصحابه شيئًا، وكأن البلاد لم تدفع بعدُ ما يكفي من الدم والخراب. هذا الخطاب ليس عابرًا، ولا مجرد انفعالات على منصات التواصل أو…

د. محمود عباس ما نشرته واشنطن بوست البارحة، 23/12/2025م، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة) لم يكن كشفًا صحفيًا، بل إعادة تدويرٍ لتهمةٍ قديمة تُستحضر كلما اقتربت لحظة تسوية كبرى على حساب الشعوب. التهمة الجاهزة، الكورد والدروز أدوات إسرائيل. والحقيقة الأوضح، لا وجود لعلاقة سرّية ولا مشروع تحالف خفي، بل هناك تهمة سياسية…

بنكين محمد في النزاعات المعقّدة، لا تقلّ خطورة الرواية عن الرصاصة، ولا يكون التلاعب بالصور والكلمات أقل فتكًا من القصف. ما شهدناه خلال الأيام الأخيرة في التغطيات الصادرة عن بعض القنوات العربية الكبرى، وعلى رأسها #العربية و#الحدث و#الجزيرة، لا يمكن توصيفه بوصفه “اختلافًا في الزوايا”، بل انحرافًا سياسيًا وإعلاميًا عن معايير المهنية الدولية. لقد جرى تسويق رواية مضلِّلة تتهم الكرد…