الإسلام السياسي الراديكالي في سوريا جذوره وآفاقه

شاهين أحمد
ظهر مصطلح الإسلام السياسي بعد نشوء التنظيمات السياسية التي تؤمن بالإسلام ، وتعتمده منهجاً للعمل ونظاماً للحكم ،وتعتقد أن الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية روحانية فقط ، بل أنه – الإسلام – عبارة عن منظومة متكاملة ، صالحة لبناء المؤسسات وإدارتها لمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية….الخ . 
ظهر لدى غالبية المفكرين وعلماء الدين الإسلامي مع بدء انهيار الإمبراطورية العثمانية و بداية الإحتلال الاستعماري الحديث والهيمنة الغربية على العالم الإسلامي وانتشار الفقر والجوع والحرمان، اعتقاد سائد بأن الدولة الإسلامية القوية الجامعة هي السبيل الوحيد للمحافظة على الشعوب الإسلامية وحقوقها. 
وكان هذا الاعتقاد دافعاً للكثير من الشخصيات التي كانت وراء ظهور العديد من الحركات الإسلامية التي تعمل من خلال إصلاح المجتمع وبعث الروح من جديد في مفاهيم الأمة الإسلامية ودولتها. وأسباب تراجع المسلمين وتخلفهم عن باقي الحضارات وفقدانهم لقوتهم ودولتهم حسب أصحاب هذا الاعتقاد يعود إلى ابتعادهم عن الدين وهجرتهم للشريعة الإسلامية، وبالتالي ليس من سبيل لإستعادة أمجادهم إلا من خلال تنظيم وتأطير طاقات المجتمع وفقاً لأصول الشريعة الإسلامية وصولاً لبناء الدولة الإسلامية من جديد !.وإعادة تنظيم حياة المجتمعات الإسلامية طبقاً للشريعة الإسلامية، وتأسيسها وتوحيدها لإستعادة دورها كقوة عالمية. والجري وراء هذا الوهم هو الأساس في ظهور هذه الحركات – حركات الإسلام السياسي – حيث تنتشر نماذج كثيرة منها مثل الجمعيات في أمريكا وكندا وأوربا الغربية ،والجماعة الإسلامية في أرخبيل المحيط الهادي وجنوب آسيا وجنوب شرقها، وجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي والشرق الأوسط تحت مسميات مختلفة .وجدير ذكره أن هذه الحركات تختلف فيما بينها لجهة حدود الدولة الإسلامية التي تناضل من أجلها، فبعضها عالمي مثل القاعدة وداعش وأخواتهما تسعى إلى إقامة إمبراطورية إسلامية عالمية، ومنها ماتنحصر عملها وهدفها في إطار الكيانات القطرية القائمة والمحددة، مثل حركة حماس في فلسطين وحركة طالبان في باكستان، والإخوان المسلمين في مصر وسوريا وحركة النهضة في تونس والعدالة والتنمية في تركيا ….الخ .وتختلف هذه الحركات أيضاً لجهة الأساليب والوسائل التي تعتمدها في تحقيق أهدافها، فمنها تعتمد القوة والعنف والإرهاب وتوظفها في سبيل تحقيق أهدافها، وهذا مالاحظناه بشكل جلي في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا واليمن …الخ.ومنها ماتسعى من خلال الوسائل السلمية إلى تحقيق أهدافها بما في ذلك العمليات الديمقراطية مثل الانتخابات كما حصل في تونس وتركيا …الخ. ومع إنطلاقة الاحتجاجات وثورات الربيع في عام 2011 والتي نجحت بعضها في وضع نهاية لبعض الدكتاتوريات كما حصل في تونس ودفعت كلاً من الأردن والمغرب والسعودية إلى إجراء إصلاحات خجولة في بعض المؤسسات. دفعت النشوة الأولية لإنتصار بعض تلك الاحتجاجات ونظراً لغياب التعبيرات التنظيمية – السياسية الليبرالية المعارضة في البلدان التي شملتها الاحتجاجات إلى إعادة الأمل والحياة من جديد لتلك البذور المدفونة والجذور العميقة الحاملة للإسلام السياسي، وأعادت الروح إلى حركاته من جديد، ونجحت بعضها في الوصول إلى الحكم عن طريق الإنتخابات كما حصل في مصر،وبدأ مشهد جديد يتشكل بوضوح بأن أغلبية الدول التي شملتها الإحتجاجات ستقع تحت حكم الإسلام السياسي .
وبعد انطلاقة الثورة السورية في 15 / 3 / 2011 بأقل من سنة ونجاح النظام في عسكرتها، دخلت الحركات الإسلامية الجهادية على الخط، واستغلت الظروف الإستثنائية والمناخات التي وفرها النظام بغرض إضفاء الطابع السلبي على الاحتجاجات من خلال إظهارها بلبوس إسلامي راديكالي، وكذلك الخطأ القاتل الذي وقع فيه بعض الجماعات الإسلامية الجهادية المحلية الناشئة من البذور التي دفنتها بعض أجنحة الإخوان المسلمين في أعماق المكون العربي السني السوري ،والتي بدورها وفرت الغطاء للجماعات الإسلامية الراديكالية المعولمة والوافدة من فروع تنظيم القاعدة وذلك من خلال شعار ” كل من يرفع السلاح في وجه النظام فهو مع الثورة “!. هذه الرؤية ساعدت الجماعات الإسلامية الراديكالية التغلغل في المفاصل الأساسية للحاضنة الثورية السورية، ثم بدأت بإلتهام الفصائل الثورية واحدة تلو أخرى، وتلقت الدعم المادي واللوجستي من بعض الجهات الدولية والإقليمية وصولاً إلى إعلان إمارات ودول مزعومة وبالرغم من إنقساماتها التنظيمية إلا إنها بقيت متوافقة من الناحية العنفية والفكرية والعقائدية. ربما الثورة التي بدأت سلمية شعبية محلية من أجل الخلاص من الإستبداد، افتقرت لأيديولوجيا وطنية ناضجة وواضحة نتيجة الفراغ الفكري الذي كان يعانيه المجتمع السوري بشكل عام والعربي السني بصورة خاصة جراء فشل المشاريع التي رفعها الناصريون والبعثيون، وتوسع مساحة المظاهرات، والعنف الذي اعتمده النظام لمواجهة المدنيين، وجلب النظام للميليشيات الطائفية مثل حزب الله والفصائل الشيعية العراقية والإيرانية ،كل ذلك ساعدت الراديكاليين في الدخول والتغلغل في المجتمع العربي السني معتمدين على تلك البذور المدفونة للفكر السلفي المتطرف، واللعب على وتر الصراع الطائفي والدفاع عن الطائفة السنة ودفع المظالم عنها والوقوف في وجه الميليشيات الشيعية الطائفية المذكورة. ربما كان المراقب يلاحظ التمايز بين الفصائل المسلحة الإسلامية المحلية الناشئة من جهة وتلك الراديكالية المعولمة الوافدة من جهة أخرى بكل وضوح في البدايات، ولكن هذا التمايز بدأ يتراجع ومساحة الإختلاف بدأت تختفي مع مرور الوقت، بالرغم من حصول جولات عدة من مشاهد ” فك الإرتباط ” أو ” إستمرارية الولاء والإرتباط ” من قبل كلاً من ” الجولاني والبغدادي “. حتى بتنا اليوم أمام مشهد الإندماج والتجانس شبه التام بين الوافدين والمحليين كون كافة الفصائل المسلحة التي نراها اليوم إما كانت جزءاً من منظومتي ” داعش والنصرة ” الإرهابيتين، أوأنها بايعت ثم إنفصلت ثم عادت وبايعت من جديد وهكذا، كون الموجودين على إختلاف مسمياتهم ينتمون إلى نفس المرجعية الفكرية والعقائدية. لكن بالرغم من كل ذلك بقي صراع خفي بين مشروعين مختلفين في إطار التجانس المذكور،المشروع المحلي القطري السوري الذي رفعه بعض قوى الإسلام المحلي الناشىء ،وبين المشروع العابر للحدود الذي رفعه وعمل من أجله الحركات المعولمة الراديكالية الوافدة.ولم يخلو الأمر من جولات من العنف الدموي بين أصحاب وأنصار المشروعين .ولكن الشعب السوري الذي عرف عنه تاريخياً بأنه يتسم بالتنوع  القومي والاعتدال الديني والمذهبي، بات اليوم منقسماً يئن تحت وطأة أشد قوى الظلام والتطرف والإرهاب، وتحول وطنه إلى مكبٍ للنفايات البشرية الوافدة من مختلف أصقاع الأرض،وتتقاتل على خيراته وثرواته أكثر من لاعب دولي وإقليمي، وبات مسلوب الإرادة،مغيباً عن المؤتمرات واللقاءات التي تنعقد بإسمه هنا وهناك. ولكن بالرغم من كل ذلك هناك شريحة لايستهان بها من النخب الفكرية والثقافية للشعب السوري وبمختلف مكوناته القومية والدينية والمذهبية، بأنه مهما حصل ، لن يكون هناك مستقبل للإسلام السياسي الراديكالي في سوريا ، وأن الشعب السوري لن يقبل إلا بدولة مدنية ديمقراطية بالجميع ومن أجل الجميع . 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…