د. ولات ح محمد
قبل نحو عامين عمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إنشاء جدار عازل يفصل بين الكورد في شمال كوردستان وأشقائهم في كل من غربها وجنوبها. وقد نشرتُ مقالاً في هذا الصدد حينذاك تحت عنوان (في ذهنية الجدران العازلة)، طرحت فيه فكرة مفادها أنه لا جدوى من مثل هذه الطريقة في معالجة المسألة الكوردية وأنه من الأفضل التفكير في وسائل تقرب بين شعوب المنطقة وتحقق لها الأمن والاستقرار حتى تلتفت هي وحكوماتها إلى التنمية والبناء بدلاً من تنمية الأحقاد والعداوات والنفخ في نار الصراعات ونشر التخلف والكراهية.
اليوم عاد أردوغان إلى موجة جديدة من موجاته النابعة من ذات الذهنية الخلاقة، حين طلب من شركة غوغل إزالة خارطة كوردستان الكبرى من موقعها. وبموجب الاتفاقات والقوانين التي تحكم مثل هذه الحالات رضخت غوغل لطلب سيد تركيا وقامت بإزالة تلك الخارطة التي كان الكوردي يجد فيها نوعاً من العزاء والتعويض عن حرمانه من كوردستان حقيقية كلما شاهدها على ذلك الموقع متأملاً فيها ممنياً نفسه بمشاهدتها يوماً ما على أرض الواقع.
الذهنية التي فكرت في بناء جدار وظنت أنه كفيل بالفصل بين الكورد على جانبيه وبجعل الكوردي ينسى الكوردي بدايةً ثم ينسى نفسه في النهاية، هي ذاتها الذهنية التي سولت لصاحبها بعد أن وسوس له الشيطان بأن إزالة خارطة كوردستان الكبرى من موقع غوغل ستجعل الكوردي ينسى مع مرور الزمن نفسه ثم ينسى حلمه وقضيته، واعتقد صاحب ذلك الفكر النير أنه سيتخلص بعد سنوات قليلة من الكابوس الكوردي وسينام بعده “قرير العين هانيها”.
اللافت هنا هو هذا الرابط بين الجدران والخرائط؛ فبناء الجدران هو رسم للخارطة التي يريد صاحبها تثبيتها على الأرض منعاً للتلاعب بها يوماً ما، وهي نابعة من تفكير قومي شوفيني مبني على إلغاء الآخر. أما إزالة الخارطة من موقع غوغل فتعبر ـ عكس الأولى ـ عن الرغبة في محو الخارطة التي لا يتحمل رؤيتها أو يتسبب وجودها له في قلق، حتى وإن كان وجوداً افتراضياً، وهي حالة نابعة عكس الأوى أيضاً ـ من ذهنية سلطانية توسعية، لا ترى حدوداً بين ولايات سلطنته مترامية الأطراف وترى شعوبها شعباً واحداً، ولا يتحمل رؤية خرائط تقسم سلطنته.
في الحالتين يبدو أن هناك فوبيا خرائط لدى “سلطان المسلمين” تتمثل في خوفه من أن يصبح قسم من أولئك المسلمين أصحاب خارطة حقيقية على الأرض. لذلك من جهة يثبّت خارطة قومية بإقامة جدران أسمنتية مسلحة للحفاظ على حدود دولته القومية المزعومة التي صنعها له سيئا الذكر سايكس وبيكو، ومن جهة أخرى يزيل خارطة (حتى إن كانت افتراضية) من مواقع الانترنت لأنه يحلم بأن يلبس يوماً عمامة السلطان الحاكم على إمبراطورية لا تفصل حدود بين ولاياتها الكثيرة.
أتحدث عن الذهنية لأنها تكشف عن مدى علاقة صاحبها بالواقع أو مدى انتمائه لكوكب آخر؛ فمن يفكر بهذه الطريقة لاشك في أنه منفصل عن الواقع ومتخلف عنه بسنوات ضوئية لأنه يظن (ومثل هذا الظن إثم) أنه بهذه الأساليب يمكنه إلغاء شعب ومحو ذاكرته، وأنه بذلك يقضي على كل الأسباب التي تمد حلمه بالحياة. عندما كان التواصل عن طريق الحمام الزاجل وعندما كان التنقل يتم على ظهور البغال وعندما كان إيصال رسالة إلى الرفاق يستغرق أسابيع، وعندما كان نشر الخبر وسماعه يتم عن طريق جهاز الراديو (الذي لم يكن متوفراً لدى الكورد)، وعندما كان إيصال طلب أو رسالة إلى منظمة دولية يحتاج إلى شهور وسنوات وعندما كان القتال بالبارودة وعندما كان .. وعندما كان .. وعندما كان كل ذلك لم تستطع كل الأنظمة المقتسمة لجغرافية كوردستان بكل إمكاناتها ومؤامراتها على الشعب الأعزل أن تمحو ذاكرته وتلغي وجوده من الخارطة العالمية، بدليل أنهم بعد مائة عام بدؤوا يفكرون في إزالة خارطة كوردستان من موقع ألكتروني، وأيضاً بدليل أنهم مازالوا يتجمعون ويتآمرون ويتنازل بعضهم لبعض من أجل إفشال الكوردي وإيقاف تقدمه أينما يكن. فهل من يفكر بهذه الطريقة ينتمي إلى هذا العصر؟.
اليوم وقد بات بإمكان الكوردي أن يحفظ تراثه وأن يتحدث بلغته ويكتب بها ويطبع كتبه رغم أنف تلك الأنظمة، وباتت لغته من بين لغات العالم المعترف بها والموجودة في قائمة لغات غوغل ذاتها، وبات يمتلك جامعات ومدارس ومعاهد ومكتبات ضخمة. اليوم وقد صار بإمكان الكوردي أن يوصل صوته بنفسه إلى المحافل الدولية عبر الوسائل الحديثة خلال دقائق، وبات قادراً على فضح الجرائم التي ترتكبها تلك الأنظمة بحقه وتوثيقها وإيصالها للعالم وتقديمها للمحاكم العالمية بنفسه، وصار يمتلك صحفاً وتلفزيونات وإذاعات أكثر من تلك التي تمتلكها بعض تلك الأنظمة، على الرغم من أنها تحكم دولاً عمرها عشرات السنين. اليوم وقد صار الكوردي.. وصار .. وصار….. فهل الذي عجز عن محو الكوردي ومحو حلمه في تلك الظروف الصعبة والإمكانات الضعيفة قادر أن يمحوه ولديه كل هذه الوسائل وهذا الحضور، وفي زمنٍ اسمه عصر المعلومات والفضاء المفتوح وقرنٍ ترتيبه الواحد والعشرون؟. هل من يفكر بهذه الطريقة له صلة بالواقع حقاً؟
عندما فاجأتكم النائبة الكوردية ليلى زانا في برلمانكم قبل نحو عقدين من الزمن باعتلاء المنصة لأداء القسم مرتدية وشاحاً عليه ألوان العلم الكوردي ثم أدت قسمها بلغتها الكوردية متحدية صرخاتكم واعتراضاتكم يا سيد أردوغان، لم تستمد قوتها حينذاك من خرائط غوغل، بل من إيمانها بكون الكورد شعباً أصيلاً يعيش على أرضه التاريخية إلى جوار شعوب المنطقة، وأيضاً من إيمانها بحقها في التحدث بلغتها الأم كما يفعل الآخرون. اليوم تجاوز الكوردي حقه في التحدث بلغته في حين ما تزال تفكر في إزالة خارطة من موقع ألكتروني أو محو اسم كوردي من واجهة مبنى، أو تغيير اسم كوردي لقرية أو شارع أو ساحة كما تفعل منذ عام في عفرين المحتلة.
عندما سأل رئيس برلمانك قبل نحو عام النائب الكوردي أوصمان بايدمير أين تقع كوردستان؟ هل تتذكر يا سيد أردوغان ماذا كان جوابه؟ لقد وضع يمينه على قلبه قائلاً: كوردستان هنا.. هنا. تماماً هذا هو ذاته جواب خمسين مليون كوردي اليوم على إلغائك خارطة كوردستان من موقع غوغل: كوردستان وخارطتها هنا.. هنا.
كل الكورد عبر التاريخ بحثوا عن كوردستانهم بفعل ما تمثله من موقع في قلوبهم وفكرهم ومخيلتهم وليس بتأثير من صورة خارطتها على غوغل التي لم تكن موجودة بعد كما تعلم. إذاً، غيّر من الأسماء الكوردية للمدن والقرى والساحات والشوارع ما تشاء، وزوّرْ من التاريخ ومن أسماء الشخصيات ما تشاء، وأقم من الجدران ما تشاء وامحُ من الخرائط ما تشاء… كوردستان في قلوبنا وفي مخيلاتنا، وقد حفظناها عن ظهر قلب، فهل لك أن تمحوها هنا أيضاً؟ تعال إذاً… ولكن حذارِ من حشر الكوردي في الزاوية أكثر مما فعلتم وتفعلون…