الجيل الثاني من الآباء الروحيين للأمة

فرمان بونجق
وهنا لا أقصد الأبوّة بمعناها الانتقائي، أو السردي، أو الإنشائي، أو التكهّني إن شئت، وإنما بالمعنى التمكيني التشابكي والملتصق بالتاريخ، الدّافع لحركته، والصانع لتفاصيله أيضاً، عبر المسيرة الطويلة، وخارطتها متخمةٌ بالآلام والجراح والعذابات، ذات أبعاد رُسِمتْ بالخطوات الوئيدة تارةً، والمتسارعة تارةً أخرى، وفي أثر كل خطوة المزيد من الآمال المستقبلية، ووقودها آنئذٍ مزيج من العشق والدم، عشقٌ لذرات تراب، ودم مسفوك عليها ولأجلها، حتى كادت المشاعر تختلط أحيانا في ذاك الزمان، بين الحقيقة والسراب، بين اليقين ونقيضه، كذاك النقيض بين الثلج والنار، بين النور والظلمة، أو بتعبير أدقّ بين الممكن المُقام على الرغبة وعنفوانها، والإحباط الذي تليه التداعيات المؤلمة إلى أبعد الحدود. تلكم هي المسيرة الطويلة التي أعنيها، وهي تنجز مما هو مطلوب منها، ومما سَيليها، أي عبر تأكيد الحتميّة التاريخية ـ كنتيجة لمقدمات ـ ليس إلاّ، ليَنزاح ذاك الركام الثقيل، ويُرفع صوت البِشارة، حيث ينقلها أفقٌ إلى أفقٍ، وقمةٌ إلى قمةٍ، بشارةٌ أصلها وفحواها، ميلاد أحد أوائل الآباء الروحيين للأمّة.
 تلك هي الرسالة العابرة للأزمنة، بإنجازاتها وانكساراتها، بالمأمول والمأفول منها، ولكنها وفي كل الأحوال، تشير إلى الأمس واليوم وغدٍ، كنايةً عن وشاية تاريخيةٍ بأن صانعها، البارزاني الأب، قد اختطّ دروب الجيل الثاني من الآباء الروحيين للأمّة.
السيّد التاريخ وفي مرويّةٍ له، ولها ما لها من دلالاتها الرمزية، قيلَ أنّ البارزاني الابن، عرّفَ عن نفسه حين زار والدة الشهيد هوجـام سورﭼـي* ـ الطاعنة أو المتقدمة في السن ـ وعائلتهِ: ” أنا نجل ملا مصطفى “. لم يَقُل الرجل أنا القائد العام للقوات، ولم يًقُل أيضاً أنا رئيس كذا وكذا، بمعنى أنّه لم يطلق على نفسه الألقاب، وهي جميعها مستحَقةٌ له، ومدينةٌ له أيضاً، ناهيك عن أن الأب الروحي يمتلك سلطات هائلة غير مرئية، ولكنه لا يتباهى بها، لا يستخدمها إلا في حالات قصوى تتعلق بوجودية الأمة وكيانها، بينما وجدنا الآخرين، وهم ليسوا سوى مغتصبي سلطة، وفي أحلك مسارات حيواتهم، وأضْيقها رَدْحا، يتغنون بما ليس لهم، ومثالنا عن أولئك، تِلكمُ الحُفَر التي خرجوا منها صاغرين ذليلين. الشاهدُ هنا، والغاية من هذه المرويّة، والتي أشرتُ إلى أنّ لها دلالاتها الرمزية، إنّما تختزل الهوية التاريخية، والنضالية، لجيلين متعاقبين ومتواصلين، حتى يكاد يصعب التفريق بينهما، لجهة ظروفهما، حيثياتهما، وأدواتهما أيضاً. بمعنىً من المعاني، ينطبق القولُ القائل هنا، أنَ المقدّمات المتشابهة تفرز نتائج متشابهة، حيث.. ومرةً أخرى يُزيحُ التاريخ ستارته الثقيلة، وبامتنان، عن أبٍ روحيّ قيد التَشْكيل، قيد الانبعاث، قيد البزوغ، كأي بزوغ آخر له بريقه المكتسب بعنوة، حيث لا يزعم التاريخ ـ هنا ـ بأنه طَفرَته الخاصّة، وإنما هو سياق لابدّ منه، لا مفر عنه، ولا مناصَ له، تلكم شهاداته، ومن يجرؤ أن ينفي ما تُقرّهُ شهادات السيّد التاريخ؟.
مجدداً، ستلتقي الأمة الكوردية وجهاً لوجه، بطلائع الجيل الجديد من الآباء الروحيين، الجيل الثاني وربما الثالث من السلالة ذاتها، من العمق النضالي عينه، مجدداً ـ وهكذا يتنبأ ـ السيّد التاريخ بأنّ هذه الأمة ستكون ذو حظوة بهم، وهي تختصر المسافات، بين الواجب والممكن، بتوثّبها، بثباتها، ومجمل طموحاتها أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هوجام سورﭼـي: البيشمركة الشهيد الذي ذُبِحَ نحرا على يد ملاّ شوان الداعشي، وقد ضرب أمثولةً ونموذجاً من البطولة في اللّحيظات التي سبقت إعدامه.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس تمعنوا، وفكروا بعمق، قبل صياغة دستور سوريا القادمة. فالشعب السوري، بكل مكوناته، لم يثر لينقلنا من دمار إلى آخر، ولا ليدور في حلقة مفرغة من الخيبات، بل ثار بحثًا عن عدالة مفقودة، وكرامة منهوبة، ودولة لجميع أبنائها، واليوم، وأنتم تقفون على مفترق مصيري، تُظهر الوقائع أنكم تسيرون في ذات الطريق الذي أوصل البلاد إلى الهاوية….

نظام مير محمدي*   بعد الذي حدث في لبنان وسوريا، تتسارع وتيرة الاحداث في المنطقة بصورة ملفتة للنظر ويبدو واضحا وتبعا لذلك إن تغييرا قد طرأ على معادلات القوة في المنطقة وبحسب معطياتها فقد تأثر النظام الإيراني بذلك كثيرا ولاسيما وإنه كان يراهن دوما على قوة دوره وتأثيره في الساحتين اللبنانية والسورية. التغيير الذي حدث في المنطقة، والذي كانت…

عنايت ديكو سوريا وطن محكوم بالشروط لا بالأحلام. سوريا لن تبقى كما يريدها العرب في الوحدة والحرية والاشتراكية وحتى هذا النموذج من الإسلاموية، ولن تصبح دولة كما يحلم بها الكورد، من تحريرٍ وتوحيد للكورد وكوردستان. هذا ليس موقفاً عدمياً، بل قراءة موضوعية في ميزان القوى، ومصارحة مؤلمة للذات الجماعية السورية. فمنذ اندلاع شرارة النزاع السوري، دخلت البلاد في مرحلة إعادة…

محمود برو حين يتحدث البعض عن كوردستان على أنها أربعة أجزاء، ثم يغضون الطرف عن وجود كوردستان الغربية، ويحاولون النقص من حقوق شعبها تحت ذرائع مبرمجة ومرضية للمحتلين ،فهم لا ينكرون الجغرافيا فقط، بل يقصون نضالاً حقيقياً ووجوداً تاريخيا و سياسياً للكورد على أرضهم. إنهم يناقضون انفسهم ويدفعون شعبهم إلى متاهات صعبة الخروج كل ذلك بسبب سيطرة الادلجة السياسية…