أكراد سورية ضحية الأيديولوجيا الفاشلة والأجندات الإقليمية والدولية

عبدالباسط سيدا
دأب نظام البعث في سورية، وذاك الذي كان في العراق، على شيطنة الأكراد، عبر اتهامهم بمختلف التهم التي كانت تعتبر وفق أيديولوجيته القوموية من الكبائر، فالكرد -وفق الماكينة الإعلامية للنظامين المذكورين- لديهم نزوع دائم نحو الانفصال، ويصرّون على انتمائهم غير العربي الذي لا يقبل به البعث، بل يطالب باستئصاله وفق منهاجه ونظريته القومية. كما أنهم يمثلون “الجيب العميل”، و”مشروعهم يتكامل مع المشروع الصهيوني-الإسرائيلي”، وغير ذلك من التهم والتوصيفات القدحية التي كانت تروج على مدى عقود، وما زالت، من أجل “شرعنة” جملة المشاريع والإجراءات التمييزية العنصرية التي كانت تُعتمد ضدهم، بما في ذلك حملات الأنفال والكيمياوي.
هذا المقال مخصص للوضع السوري من دون العراقي، لتركيز الجهد، وتغطية الموضوع بصورة أفضل قدر المستطاع.
المناطق التي يتواجد فيها الأكراد في سورية، كما هو معروف، متباعدة مختلطة، ولا تمنح الظروف الإقليمية ولا الدولية، فضلًا عن العوامل الجغرافية والاقتصادية والسكانية، أي فرصة أو احتمالية لإمكانية التفكير في انفصالها. كما أن الحركة الكردية السورية لم تطرح، منذ بداية تأسيسها في منتصف القرن المنصرم، خيار الانفصال قطّ، وإنما كانت تؤكد باستمرار ضرورة حل الموضوع الكردي ضمن الإطار الوطني السوري. ولكن مع ذلك اتخذ نظام البعث من تهمة الانفصال ذريعة لممارسة سياسة اضطهادية مزدوجة استهدفت الكرد باستمرار. وتمثلت تلك السياسة في حرمان الكرد من جميع حقوقهم القومية المشروعة من جهة، وفرض جملة من المشاريع والسياسات التمييزية عليهم، من جهة أخرى.
ولكن المفارقة التي استوقفت السوريين عمومًا، والأكراد منهم على وجه التخصيص، تمثلت في احتضان نظام حافظ الأسد لحزب العمال الكردستاني الذي كان يطالب في ذلك الحين بدولة كردية مستقلة في المنطقة كلها. فقد دعم حافظ الأسد هذا الحزب، بينما كان نظامه يقوم باعتقال الكرد السوريين الذي كانوا يطالبون باستعادة الجنسية السورية التي كانوا قد جردوا منها، بموجب الإحصاء الاستثنائي الذي كان قد أُجري حصرًا في محافظة الحسكة عام 1962. وذلك في إطار سعي حافظ الأسد لأداء دور إقليمي في إطار تحالفه مع النظام الإيراني، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي.
تطورت العلاقات بين الحزب المعني والنظام، إلى أن وصلت الأمور بعبد الله أوجلان إلى الإعلان، في منتصف تسعينيات القرن الفائت، عن سعيه من أجل دفع أكراد سورية نحو الهجرة إلى الشمال حيث أصلهم، على حد مزاعمه المتناقضة مع حقائق التاريخ والجغرافيا والوقائع الميدانية.
لسنا هنا بصدد سرد تفاصيل الحكاية كلها التي انتهت في ذلك الوقت بإخراج أوجلان من سورية، بناء على الضغط التركي، ورضوخ حافظ الأسد، وبُذلت جهود من أجل التوافق على تنظيم العلاقات التركية-السورية في المجال الأمني، وكانت اتفاقية أضنة 1998 لتعكس حصيلة تلك الجهود.
ما نريد التركيز عليه هنا هو بيان الكيفية التي عاد بموجبها نظام بشار الأسد، بالتنسيق الكامل مع النظام الإيراني، إلى الدفاتر القديمة، واتفاقه مع قيادة حزب العمال الكردستاني، على دخول قوات الحزب المعني إلى سورية تحت اسم “حزب الاتحاد الديمقراطي” من أجل التحكّم في المناطق الكردية، وإبعادها عن الحالة السورية العامة، لا سيما في أجواء التفاعل الذي كان يتصاعد يومًا بعد يوم مع الثورة السورية.
دخلت القوات المعنية إلى المناطق الكردية، بتفاهم وتنسيق كاملين مع النظام على جميع المستويات، بما في ذلك التمويل والتسليح وتوزيع المهام. ومارست منذ اللحظة الأولى لدخولها إرهابًا ضد الكرد في قامشلي والحسكة وكوباني وعفرين؛ ثم كانت الذروة التي تمثلت في مجزرة عامودا صيف عام 2013.
لم تكتف القوات المذكورة بذلك فحسب، بل سممت أجواء العلاقات الكردية-العربية، في منطقة الجزيرة تحت شعار مواجهة الإرهاب، وفي وقت لم يكن تنظيم (داعش) قد ظهر بعد، ونشير هنا إلى الهجمات التي شنها على تل براك وتل حميس والمناطق الجنوبية من مدينة الحسكة، حيث الأغلبية العربية.
استمرت الأمور هكذا إلى حين التفاهم الذي تم بين الجانب الأميركي والمسؤولين عن القوات المعنية لاستخدام الأخيرة في المناطق التي أخذت الولايات المتحدة على عاتقها مهمة مكافحة (داعش)، وهي مناطق شرقي الفرات وصولًا إلى الحدود العراقية، وشمالي الفرات وصولًا إلى الحدود التركية، وشملت الريف الجنوبي لمحافظة الحسكة وتل أبيض والرقة ودير الزور، كما شملت منبج أيضًا، على الرغم من وقوع المدينة غربي الفرات، وكان التفاهم بطبيعة الحال أمنيًا عسكريًا، لم يتجاوز سقف التعامل مع اي شركة تستخدم المرتزقة في العمليات القتالية، إلا أن الحزب المعني ظل يتشدق بانتصاراته، ونجاح تجربته التي اعتبرها في أكثر من مناسبة “التجربة الديمقراطية الأمثل في العالم”، مستفيدًا من انفتاح الأوروبيين عليه بضوء أخضر أميركي.
الآن، بعد الموقف الأخير الذي أعلنه ترامب بخصوص سحب القوات الأميركية من منطقة شرقي الفرات، باتت الأمور معقدة بالنسبة إلى الحزب المذكور المعروف ببراغماتيته، وقدرته على نقل البندقية من كتف إلى آخر، وتبديل المواقع والجهات بناء على الأجندات الخاصة به، أو تلك التي يتم تكليفه بها.
هل سيعود هذا الحزب إلى تحالفه القديم – الجديد مع النظام؟ وفي هذه الحال، هل سيكون في مقدور النظام أن يقدم له الحماية الكافية أمام هجوم تركي محتمل؟ أم أن القرار الأميركي هو في الأصل حصيلة تفاهمات مع تركيا، بناء على معادلات توزيع المناطق والنفوذ والمواقع التحالفية بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة؟
في جميع الأحوال، لن يكون الحزب المعني قادرًا، من دون تغطية أميركية، على مواجهة التهديد التركي الذي يبدو أنه جاد، وليس  مجرد حملة إعلامية موجهة نحو الداخل التركي. لا سيّما أن الحاضنة الشعبية بكل مكوناتها مستاءة من ممارسات وسلوكات الإدارة التي فرضها عليهم هذا الحزب الذي لا يخفي، بمناسبة ومن دون مناسبة، ارتباطه العضوي بحزب العمال الكردستاني، وإصراره على عرض صور زعيمه عبد الله أوجلان في الساحات والشوارع، بأسلوب شعبوي استفزازي واضح لم ولن يخدم قضية الكرد السوريين، بل يلحق بها الكثير من الضرر.
لقد استغل الحزب المعني هذه القضية العادلة، ووظّفها بطريقة انتهازية فظة، ودفع أكراد سورية ضريبة باهظة لا يستطيعون تحمل أعبائها، وكل ذلك أدى إلى تراجع التعاطف السوري العام مع القضية المشار إليها لتبلغ حدودًا قياسية، وذلك مقارنة مع التعاطف الكبير الذي حظيت به في بدايات الثورة السورية.
الجدير بالذكر هنا هو أن مواقف هذا الحزب قد تكاملت مع مواقف المتشددين والمتطرفين الإسلامويين والقومويين في الجانب العربي، الأمر الذي يمكن مقارنته إلى حد كبير بالتكامل الذي يحصل راهنًا بين مواقف المتشددين الإسلامويين من جهة، ومواقف التيارات القوموية العنصرية الشعبوية في مختلف الدول الأوروبية، من جهة أخرى.
من سيملأ الفراغ الذي سيحصل في منطقة شرقي الفرات، بعد الإنسحاب الأميركي؟ هل ستدخل القوات التركية المنطقة، ويتكرر سيناريو عفرين؟ سؤال يؤرق سكان المنطقة، خاصة الأكراد منهم.
هل ستتقدم قوات النظام بتغطية روسية-إيرانية، لتدعم مراكزها الأمنية والعسكرية المتواجدة في المنطقة أصلًا؟ سؤال آخر لا يبشر بالخير؟
هل سيكون الانسحاب الأميركي مشابهًا لذاك الذي أقدم عليه أوباما في العراق، وما ترتب على ذلك من تسليم العراق لقمةً سائغة للنظام الإيراني؟
أسئلة كثيرة تطرح في هذه الأيام، وسيناريوهات عدة يتناولها المحللون، مع إدراكهم المسبق بأنهم يتعاملون مع أعقد قضية مفعمة بالمفاجآت، والانعطافات الحادة في مواقف الدول، وذلك بناء على تبدل أولوياتها وحساباتها.
لكن الأمر المؤكد هنا هو أن العلاقة الطبيعية بين الشعبين التركي والسوري، بمختلف مكوناتهما، هي لمصلحة الجانبين الآن وفي المستقبل. وهذا يستوجب ضرورة البحث عن حلول إبداعية تجنب المنطقة المزيد من الكوارث، وتؤسس لمرحلة من التفاهمات والتنسيق لمصلحة الشعبين الجارين الصديقين.
“حزب الاتحاد الديمقراطي” هو في نهاية المطاف حزبٌ وافد، يتبع مباشرة حزب العمال الكردستاني، كما أسلفنا، وقد تمكن من استغلال ورقة الكرد السوريين أبشع استغلال. والمعالجة الناجعة المتكاملة لملف هذا الحزب تستلزم حل القضية الكردية في تركيا، على أسس عادلة ضمن إطار وحدة البلد، وعلى قاعدة الاعتراف بالخصوصيات والحقوق. وهذا ما سيكون في مصلحة الجميع، وفي مصلحة أمن المنطقة واستقرارها، والجهود الساعية من أجل النهوض بها.
——— 
المصدر: جيرون

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…