ورطة أردوغان .. هل من مَخرج؟

د. ولات ح محمد
    اتخذت أنقرة منذ بداية النزاع في سوريا موقفاً واضحاً بدعمها للمعارضة سياسياً وعسكرياً وإعلامياً بغية إسقاط النظام، فأعلنت عن خطوطها الحمراء وأسقطت طائرة لدمشق ثم أخرى لحليفها الروسي. وعندما تكشفَ لها أن رياح الأحداث تجري بما لا تشتهي سفنها غيرت بوصلتها نحو الاعتذار للروس ثم التنسيق معهم ومع الإيرانيين. وبعد التضحية (بموجب صفقة معهم) بقسم من المعارضة تمكن أردوغان من احتلال جزء مهم من الشمال السوري بداية ومن ثم محاربة حزب الاتحاد الديمقراطي واحتلال عفرين فيما بعد، ما مكنه من قطع الطريق على الإدارة الذاتية التي كانت تسعى لتشكيل “فيدرالية شمال سوريا”. وبذلك حققت السياسة التركية مكاسب آنية على الأرض كانت عاجزة عن تحقيقها من دون تلك الطريقة الانتهازية النفعية القائمة على المقايضة والترقيع والجمع بين المتناقضات.
    هذا التقارب مدفوع الثمن مع الروس أبعدَ تركيا عن حليفها الأمريكي وقرّبها بالمقابل من خصمها اللدود إيران، فجمع بذلك بين نقيضين: الإيراني الداعم الرئيس للنظام والتركي الداعم الرئيس للمعارضة، الأول يريد تثبيت النظام والثاني يريد إسقاطه!!. هذه النفعية وتلك السياسات (أسميها  “الترقيعية أو الاستدراكية”) التي انتهجها أردوغان خلال السنوات الماضية لتصحيح خطأ بخطأ آخر أدخلت أنقرة اليوم في موقف صعب بعد أن ساءت علاقتها بواشنطن (بسبب تحالف الأولى مع الروس والإيرانيين ودعم الثانية لوحدات حماية الشعب)، ووضعتْها أمام خيارات صعبة ومكلفة، سنعرض لبعضها في السطور القادمة. 
    تركيا ـ بوصفها عضواً في الناتو ـ لا تستطيع أن تذهب في تحالف استراتيجي طويل المدى مع أهم خصم لأمريكا وللحلف الأطلسي في المنطقة والعالم، أي روسيا، وهي مضطرة في لحظةٍ ما للعودة إلى حلفائها الأصليين. ولكنها بالمقابل لا تستطيع أن تعود إلى حليفها الأمريكي وتتقبل دعمه لأحد خصومها في المنطقة، أي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحداته المسلحة، ولا تستطيع في الوقت نفسه التمرد على واشنطن أو القطيعة معها تماماً بسبب دعمها ذاك، لأن هذا التصرف سيدفع الأخيرة إلى زيادة دعمها لقوات سوريا الديمقراطية التابعة للإدارة الذاتية لتحقيق توازن مع الوجودين الروسي والإيراني في سوريا من جهة، ولإبقاء تركيا تحت الضغط من جهة ثانية لفك ارتباطها مع موسكو وطهران. 
    في الاتجاه الآخر إذا أرادت أنقرة أن تعود إلى علاقتها الطبيعية مع الحليف الأمريكي فإن ذلك يقتضي تخريب علاقاتها مع كل من روسيا وإيران؛ إذ لا يمكن للحكومة التركية أن تكون في علاقة طبيعية مع واشنطن وتبقى في الوقت نفسه على علاقة جيدة اقتصادياً وسياسياً مع خصمها طهران التي يفرض عليها الأمريكي عقوبات ويطالب الآخرين بالتعاون معه ويعاقب كل من يخالفه في ذلك. لذا ستكون خطوة العودة إلى الحليف الأمريكي مكلفة لأنقرة؛ فتخليها عن اتفاقاتها مع موسكو وطهران يعني لها أمرين: الأول وجوب انسحابها من الأراضي السورية التي دخلتها بموجب تلك الاتفاقات والتفاهمات والمقايضات مع العاصمتين في كل من سوتشي وآستانا، والثاني حلول إيران محلها في تلك المناطق. أضف إلى ذلك أن أنقرة بعودتها إلى الحليف الأمريكي في الظروف الحالية تقر ضمناً بتثبيت الإدارة الذاتية التي قد تتحول إلى فيدرالية مشروعة في المستقبل وتغري كوردها بالسير على ذات الطريق. 
    في حساب آخر إذا بقيت أنقرة مع الروس وحاربت الإدارة الذاتية وأضعفت قواتها المسلحة (كما ترغب الآن) فإنها ستضعف بذلك الوجود الأمريكي على الأرض في سوريا مقابل الوجود القوي لكل من الروس والإيرانيين. وهذا يعني بالضرورة تمكين إيران من ربط طهران بالبحر المتوسط بسهولة، ذلك الوجود الإيراني الذي قد يبلغ الحدود التركية ذاتها في حال ضعف الوجود الأمريكي ومغادرة قواتها الأراضي السورية وزوال الإدارة الذاتية، إذ ستطالب كل من دمشق وطهران وموسكو بانسحاب تركيا من الأراضي السورية بعد زوال مبرر وجودها الذي تذرعت به، وهو محاربة “الخطر الكوردي”. خلوصي أكار وزير الدفاع التركي عبر عن هذا الوضع المتشابك والموقف التركي الصعب عندما علق على عزم واشنطن إنشاء مراكز مراقبة على الحدود قائلاً: ” أؤيد الرأي القائل إن هذه التدابير ستزيد تعقيد وضع معقد أصلاً”.
    من منظور آخر وخروجاً من هذا المأزق إذا قرر أردوغان الذهاب باتجاه التنسيق مع دمشق فإنه سيخسر المعارضة التي تقاتل إلى جانبه وقاتلت في عفرين سابقاً ويعتمد عليها لكسب المشروعية في احتلاله الأراضي السورية. وإذا واصل دعمه للمعارضة فإن دمشق قد تترك الإدارة الذاتية في شرق الفرات كما هي، وربما يعقد اتفاقاً معها لجعلها شرعية ومعترفاً بها رسمياً لإزعاج أنقرة والضغط عليها من الداخل وتوريطها أكثر وأكثر.
   أما في الملف الإيراني فإذا تعاون الرئيس التركي مع واشنطن في فرض العقوبات على إيران فإنه سيخسر صديقه المؤقت إيران لمصلحة عدوه المؤقت أمريكا، وسيضيف إلى اقتصاده المتهالك سبباً آخر لمزيد من التراجع بسبب تأثره بتلك العقوبات. أما إذا وقف مع إيران ورفض التعاون مع العقوبات الأمريكية فإنه سيعرض نفسه لعقوبات جديدة من واشنطن، وقد تكون نتائج هذا السيناريو أسوأ من الأول بكثير. في كل الأحوال هناك صراع أمريكي إيراني قادم على الأرض السورية (وربما في العراق أيضاً)، وعلى أنقرة  أن تختار الموقف الأقل تكلفة لها، إذ أنها خاسرة في أي اتجاه ذهبت.
    هل من مَخرج؟. ضمن هذا الوضع المتشابك والمعقد وفي ظل وضع تركيا الاقتصادي والسياسي الداخلي البائس ليس أمام حكومتها الكثير من الخيارات والحلول النافعة، إذ لا بد لها من التضحية بإحدى مخاوفها الأساسية لتكسب على الجانب الآخر: الخيار الأول أن تتخلى عن فكرة محاربة الإدارة الذاتية شرق الفرات، وبذلك تكسب رضى الأمريكي وتعاونه في ملفات أخرى ومنها الملف الاقتصادي، وترتاح من الضغوط الروسية، وتطمئن كذلك إلى أن إيران لن تبلغ حدودها الجنوبية الشرقية، وتجنب نفسها الدخول في حرب مع شرق الفرات مكلفة لها سياسياً واجتماعياً وعسكرياً واقتصادياً، وقد تكون لها ارتدادات على المستوى الداخلي. ولكن في هذه الحالة سيبدو أردوغان ضعيفاً ودعائياً أمام جمهوره وسيجعل من نفسه عرضة لهجوم معارضته التي لا تملك سوى استغلال سقطاته.
    أما الخيار الثاني فهو أن يصر الرئيس التركي على اجتياح بقية المدن الكوردية كما يقول ويهدد مهما كلفه الأمر، حتى وإن كان مواجهة مع الحليف الأمريكي، وهي مغامرة كبرى ستبعد أنقرة عن واشنطن أكثر وأكثر وستبقيها موضع ابتزاز روسي إيراني على الدوام، وستضيف إلى أزماتها أزمة أخرى، خصوصاً أن نتائج تجربة أردوغان في عفرين غير مشجعة، إذ اضطرت قواته مؤخراً إلى محاربة بعض الفصائل السورية التي قاتلت إلى جانبه بعد استفحال أمرها سلباً ونهباً وقتلاً في مدينة الزيتون وانكشاف تواصلها مع مجموعات مصنفة إرهابياً كما قيل. وفي حال إنهاء الإدارة الذاتية فإن الوجود الإيراني الذي كانت تركيا تخشى أن يصل حدودها الشرقية عبر كوردستان العراق سيبلغ حدودها الجنوبية عبر كوردستان سوريا. ولهذا الوجود ما له في حسابات كل من أنقرة وطهران الآيديولوجية والجيوسياسية.
    تركيا في كل تلك الحالات والاحتمالات لا تستطيع أن تمسك العصا من الوسط، إذ أنها لم تترك وسطاً لهذه العصا؛ فإما أن تتنازل عن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن وتخرب علاقتها مع الحلف الأطلسي (وهو احتمال ضعيف) وتسلم نفسها ضعيفة غير مسنودة لروسيا وإيران وتبقى أسيرة ابتزازاتهما وتجعل من نفسها دولة مسلوبة الإرادة، وإما أن تتخلى عن تنسيقها الآني والترقيعي مع روسيا وتتخلى عن فكرة اجتياح شرق الفرات التي تعني بالضرورة إضعاف حليفها الأمريكي وإخراجه من سوريا وتركها لموسكو وطهران، وهذه خسارة استراتيجية لن تقبل بها واشنطن ولن تمررها لأنقرة بسهولة ويسر إن فعلت. 
    لقد جعل أردوغان من الوقوف في وجه الطموح الكوردي أساساً لعقد تحالفاته ورسم سياساته خلال السنوات الماضية في كل من سوريا والعراق، فابتعد بذلك عن أصدقائه وتحالف مع خصومه وقدم لهم تنازلات تلو أخرى وجمع بين متناقضات ظناً منه أنه قادر على أن يستمر هكذا حتى النهاية. تلك هي الورطة التي أوقع الرئيس التركي نفسه وبلاده فيها إلى أن بات محاصراً اليوم بخيارات غير قادرة على إنقاذه من تبعات ما فعل ورسم إلا بخسارته كل ما كان يظنه مكسباً يوماً ما. أما الكوردي وحقه فليسا ضد أحد وسيخسر كل من يظن أنه قادر على تغيير نواميس الحياة وابتلاع الجغرافيات ومحو البشر.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…