إدريس سالم
إن وسائل الإعلام الحديثة هي أداوت لصناعة مواقف واتجاهات، منها هادفة ومنها منحازة ومنها مؤدلجة، والكل تتحدّث باسم حرّية الرأي وديمقراطية الفكرة، حيث تنهار الأسوار تحت مطالب حرية التعبير ودعم الحريات والفكر الديمقراطي ولكن ليس فد دول وأنظمة الشرق الأوسط، إذ رافق هذا الانهيار انفلات السيطرة على وسائل الإعلام الاجتماعية، وأصبح كل شيء متاحاً للعرض، والمعروض الأكثر طلباً هو كل ممنوع ومخالف في حيلة لا تتوقف أبداً، بدايتها للانفلات من مدوّنات القيم الفكرية وأخلاق الثقافة الاجتماعية، ونهايتها السقوط في حضن الفوضى والإباحية، فهل أحدنا يحكّم عقله ويبني لنفسه مدوّنة أخلاقية قيمية في متابعة المشهد، ليساهم في استعادة الحرية المستباحة والكرامة المهدورة دون قطرة دم؟
تصلني يومياً إشعارات على صفحتي بوجود بث مباشر لأحدهم، بعدّة عناوين، بعضها ذو أهمية فأسرع لمتابعتها بشغف، بما يحتويه من علم وثقافة ووعي لطارحه، ومن المؤسف أنني لاحظت تواجد عدد قليل من المتابعين وعدد الإعجابات، لا بل ومهاجمة لصاحب البث ّوردود خارجة عن الأدب، وبعض العناوين التي تثير الاشمئزاز، وأرغم نفسي على المتابعة ولو لدقيقة لأشاهد ما وصل إليه البعض من تخلّف فكري، علَّني أجد سبيلاً للحوار معهم أو انتقادهم بشكل بنّاء ودعوتهم للارتقاء بأفكارهم.
أتناقش كثيراً مع نفسي، وتدور بعقلي أفكار متعددة، هل هي حرّيتهم الشخصية؟ أنا أؤمن بوجود فوارق طبقية وثقافية وفكرية ومجتمعية، وأحترم رأي الآخر ولكن هل يجب أن ألتزم الصمت على ممارسات الجهل؟ هل استخدم العرب والكورد هذه الخاصية بشكل صحيح؟ هل أنتَ مع الفيس بوك بأن تصبح هذه الخدمة مُتاحة لجميع مستخدمي الموقع؟
لا يستطيع أشخاص محدّدون تقييم ظاهرة البثّ المباشر من سلبياته وإيجابياته من خلال تفاعلاتها الأساسية (أحببته، أضحكني، أعجبني، أحزنني، أدهشني، وأغضبني)، فالاستبيان أو التقييم يحتاجان إلى الآلاف من المصوتين والمعلّقين، تشرف عليه مراكز إعلامية وتقنية متخصّصة في شركة الفيس بوك، لأن الرجل المناسب إن لم يكن في المكان المناسب، فسيضيع كل شيء، ليعيش الفرد والجماعة في دوّامة الفوضى والعنف والاستبداد.
أولاً: سلبيات البثّ المباشر:
1ــ التضليل:
ليس كل ما يكتب أو يُحكى أو يُسمع في مواقع التواصل الاجتماعي حقيقة أو قابلاً للتنفيذ أو النشر، فقلة هي التي تتميز بالأمانة، البعض يبثّ الأكاذيب، والبعض الآخر يروّجها، وضعفاء العقل يصدقونها.
2 – العُزلة والإدمان:
يقضي كثيرون وقتهم في إعداد أو متابعة الحلقات الحوارية، وهو ما يُمكن أن يُبعدهم عن عائلاتهم وأصدقائهم، ويُسبّب إدماناً، أو حتّى مشاكل اجتماعية واضطرابات نفسية «قلق, عدم استقرار, حيرة، عصبيّة، تبنّي عادات ومعتقدات غريبة»، ما يُقلّص من قدرتهم الإنتاجيّة والتعليمية والفكرية.
3 – فقدان القدرة على النوم:
النوم القليل وغير المنظّم، له تأثيرات ومخاطر جسدية ونفسية وعقلية، إذ في كثير من الأحيان يستمرّ البثّ حتّى ساعة متأخّرة من الليل، لإنهاء موضوع، في غالب الأحيان يكون فارغاً من المحتوى.
4 – التحريض على الآخرين والشجار:
ربّما يعارضك شخص ما من الناحية الإيديولوجية أو السياسية أو الثقافية أو الفكرية وغيرها، من الممكن أن يؤدّي هذا التحريض والشجار إلى خلافات ونزاعات بين الأشخاص على أرض الواقع، وربّما يتّسع النطاق ويصبح على صعيد الاجتماعي والعشائري.
5 – مصدر للدعاية الحزبية الإيديولوجية:
حيث هناك فئتان، الفئة الأولى تعمل على نشر مواضيع وأحاديث، بهدف نشر الدعاية الترويجية لأهداف وسياسات ومشاريع وأجندات جهة حزبية معينة، فيما الفئة الثانية تهاجم الفئة الأولى، وتفتح عليها حرباً إعلامية، ففي كثير من الأحيان نرى مستخدماً للبثّ أو ضيفاً دائماً ما يتكلم حول موضوع معيّن، وكأن هناك جهات تموّله أمنياً ومالياً.
6 – نشر المعلومات والرؤى الخاطئة:
قد تكون بعض المعلومات والرؤى حول مواضيع معينة غير حقيقية، وبالتالي تحمل تفسيراً خاطئاً للظواهر والمواقف، فقد يؤثّر ذلك على المعلومات والحقائق التي يعرفها المستمع على أرض الواقع.
7 – الاستخدام الخاطئ:
يؤدّي الاستخدام الخاطئ لأداة البثّ المباشر إلى غرس أفكار ومفاهيم وعادات سيئة بين الشباب، والتي توجّه عقول الشباب إلى الطريق الخاطئ، فمثلاً قد يتعلّم الأطفال العنف من خلال الاستماع للشتائم والإهانات والتخوين.
8 – التأثير على التوعيّة المجتمعية وتثقيفها:
يساهم روّاد البثّ المباشر في التأثير على زيادة اطّلاع الناس ومعرفتهم بالأمور المتنوعة، حيث أتاحت صفحاتهم للكثير من الناس نشر الأفكار والتعليقات الغبية والمسيئة، التي تنم عن جهل كبير، ويصدقها الكثير من الفارغين.
9 – القضاء على المواهب الفكرية:
عندما يتابع شاب ما، صفحة فيسبوكية رياضية غنية بالأخبار والمعرفة الرياضية، فحتماً سيتكوّن لديه قسط مهمّ من الثقافة والمعرفة، أما عندما يتابع حوارات البثّ المباشر اليومية بكل إشكالاتها ومواضيعها، المفتقدة للمعلومة الصحيحة وأفكار التربية الصحية، فحتماً سيقضي هذا البثّ على موهبته وتربيته.
10 – تقديم مَعلومات عشوائية للمستخدمين الصغار:
كل رائد من روّاد البثّ المباشر يرى بأنه السبّاق في تفعيل ميزة البثّ المباشر، وغالبيتهم يستخدمون لغة التخوين والتجريح، لدرجة أن حواراتهم الكوميدية والترفيهية شكلاً وليس مضموناً ساهمت في أن تصبح مَصدراً مُشوّقاً للضحك وتقميص الأدوار للأطفال المُتابعين لها، فوجود مواد غير مُناسبة لأن يَسمعها أو يُشاهدها الأطفال، هو ما يُمكن أن يكون تحديده ومراقبته من قبل الأهل صعباً في أغلب الأحيان.
11 – الفشل الذريع لنقل ثقافة وحضارة الدول الأوروبية الراهنة:
باعتبار أن الفيس بوك وتقنياته الحديثة وبرامجه المطوّرة باتت أكثر انتشاراً وسرعة من وسائل الإعلام، فلم يستطع روّاد البثّ المباشر الموجودين كلاجئين في مُختلف الدول الأوروبية من نقل صورة تعامل المجتمع الأوروبي مع اللاجئين السوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين والكورد، أو طريقة استقبالهم، والاطّلاع على عاداتهم وأسلوب حياتهم ومقارنتها مع العادات والأساليب التي كان يعيشها في وطنه قبل الثورة والأزمة.
12 – تجريح الكرامات:
المعدّ ببرامجه أو حواراته، والضيف بمداخلاته، والمتابع بتعليقاته، يهين كرامة المثقّفين والمناضلين وبعض الأحزاب التي لها باع طويل في النضال، فعند نقد أو إبداء الرأي على أيّ بثّ ما، فإن أول جملة يقولونها “تعالوا من بلاد الترفّه.. وقدّموا الأفضل”، وكأن البثّ هو مقياس لكل أمور الحياة، وأساس لكسب الحقوق والتحرّر.
13 – ساحة حرب وانتقام:
تحول البثّ المباشر من أداة للتواصل الاجتماعي إلى منبر للشتائم والتخوين المتبادل وخلق الفتنة بين القومية الواحدة، وحرب إعلامية بين المؤيّدي والمعارض والحيادي.
14 – فوضى عارمة:
كزرع التعصّب الحزبي على حساب القومي، والتهديد بالقتل والاغتصاب، وتعليم الأطفال على كل أنواع الشتائم والإهانات، والروتين اليومي وهدر الوقت، وزرع الحقد والعنف.
15 – غياب التنظيم وعشوائية ومزاجية الحوارات:
غالبية النقاشات المباشرة والحية تفتقد إلى التنظيم الفعّال والهادف، حواراتها ومواضيعها مختارة بشكل عشوائي ومزاجي، وحتى يكون منظماً بحواراته عليه أن يختار مواضيع وضيوفاً محدّدين، من أصحاب الأقلام، القادرين على أن يفيدوا الناس بأمور إيجابية مؤثّرة.
16 – نقص في الثقافة والمعرفة:
المنصّات الاجتماعية أصبحت فرصة للكثيرين من الذين لا يمتلكون المستوى الذهني الكافي والتفوق الفكري، للعبث بمقدّسات المجتمع وأعراض الناس ونشر المعرفة المريضة التي تضرّ الثقافة الجمعية للمجتمع.
17 – أقوياء بالقول، ضعفاء بالفعل:
على “الفيس بوك وتويتر” كلّنا قادة حقيقيون وساسة فاعلون ومناضلون شرفاء ودُعاة للتحرّر والديمقراطية، وفي الأرض، وعندما يطلبنا الفعل كأدني مسؤولية، فإن الظروف دائماً تحكمنا، فنفضّل لقمة العيش على الفيس بوك أو تويتر!
يعتبر النقد ضرورة مجتمعية وإنسانية، سواء كان على الأفراد المتنفذين، أو المؤسّسات، أو الدولة، إذ يشكّل رقابة ذاتية من المجتمع على هؤلاء الناس، فيقومون برصد تحركاتهم المشبوهة، كمَن يتخذ الدين غطاء لسرقة الأموال أو خداع الناس، أو مَن يتخذ فكره غطاء ليقوم بالانتقاص من معتقدات الآخرين، وعلى المؤسّسات أن تحافظ على المجهود البشري المقدم لها، ولا تستغلّ حاجة الناس في ظرف من ظروف، أو استغلال مصائب الناس للانتفاع منها، وعلى الدولة لتقويمها وتعديل سلوكها وعدم العبث بمقدرات الوطن وحفظ كرامة وحرية الشعوب، والمثقّف على المنابر الإعلامية الاجتماعية عليه أن يدعو إلى التغيير الهادف والنقد البنّاء والاحتكام للعقل والحدّ من العاطفة المفرطة في التعامل مع القضايا المصيرية للشعوب المضطهدة.
ثانياً: إيجابيات البثّ المباشر:
1 – فتح آفاق كبيرة للتواصل والتفاعل بين الناس، دون أيّ حواجز ومعوّقات، بسلبية أو إيجابية.
2 – نقل الأخبار والأحداث بسرعة كبيرة وبزمن قليل رغم عشوائيتها.
3 – وسيلة للتسلية والترفيه، وباحة تنفيس نفسي.
4 – الرقابة على أداء الأحزاب السياسية والمؤسّسات والمنظمّات، وكشف الممارسات القمعية لأجهزة الدولة بحقّ مواطنيها، ودعوتهم إلى الالتزام بتحقيق مطالب الشارع، ولو أنهم يستخدمونها في غالب الأوقات بطريقة خاطئة.
5 – كشف صفحات وهمية مخابراتية كانت تزرع البلبلة والمشاكل بين الناس والمجتمع.
6 – إتاحة الفرص أمام كافّة أصناف الناس للتعبير عن آرائهم، وإيصال أصواتهم، ومواجعهم إلى الجهات المعنية، وإلى كلّ من يهمّه الأمر.
7 – كشف ومواجهة ممارسات التنظيمات المتطرّفة، التي ارتكبت أبشع المجازر بحق المدن العربية والكوردية، كالموصل والبصرة وعفرين وكوباني وكركوك والغوطة وإدلب وعدن ومأرب.
8 – تنمية وتطوير الذات، من خلال اكتساب مهارات التواصل النشط وآلياته.
9 – الدعاية الفكرية والثقافية، حيث يجد أصحابها منابر سهلة لهم للتعبير عن أفكارهم والدعوة لثقافتهم.
10 – تناول المواضيع الحسّاسة والضرورية، والتي لم يستطع الإعلام الرسمي وغير الرسمي التطرّق والاقتراب منه.
11 – أصبح يشكّل حراكاً وتواصلاً ثورياً، ضدّ سياسة الأحزاب التقليدية ودور المنظمات الإنسانية والمؤسّسات الإعلامية.
12 – تعزيز فكرة التواصل والتفاعل المجتمعي، حول أمور الحياة، بسلبية أو إيجابية.
13 – وضع الشعب العربي والكوردي على إطلاع مباشر ودائم بما يجري، خاصة في المدن العربية والكوردية الملتهبة والمنكوبة، من أحداث سياسية وجرائم ومجازر متوحّشة.
14 – ظاهرة طبيعية مرافقة لهامش الحرية والقفزة النوعية في مجال الاتصالات والتواصل، والزمن كفيل في غربلة هذه الظواهر وتحييدها وتطويرها.
خلاصة الكلام، للبثّ المباشر سلبيات وإيجابيات، والمطلوب من المُعد كما من الضيف والمتابع – وبعد انتهاء كلّ حلقة حوارية – أن يقوم بمراجعة ذاتية، لما أعدّ المعدّ من موضوع، وما أضاف الضيف في مداخلته من آراء وانتقادات وملاحظات واقتراحات، وكمية ونوعية المعلومات التي استفاد المتابع من المعدّ والضيف، تماماً كالفلاح الذي ينتهي من جني محصوله، ويحسب الخسارة والربح، فمَن طالت مقدّمته سقطت هيبته، وملّ المستخدمون من صدق متابعته.