إدريس سالم
سوريا التي تتجاور فيها كلّ التناقضات جنباً إلى جنب، الثورة وتجّار الحروب، الجندي الباسل والشبيح المأجور، الثائر النزيه والخائن المرتزق، سوريا ثارت على نظام يرفع شعار الدولة المدنية في النهار ويخونها في الليل والنهار، سوريا ثارت خوفاً على الإسلام من الإخوان المسلمين، ثارت خوفاً على العروبة تجّارها وفسّاقها ومنافقيها، ثارت على نظام يرى بعين واحدة ما يريد، وثارت على معارضات تضيق ذرعاً بشقيق وحليف، سوريا ثارت على شعارات الممانعة والمقاومة التي تتحوّل أمام كلّ عدوان إسرائيلي إلى بيان بحقّ الردّ لكن في الوقت والمكان المناسبين.
الكورد ثاروا على حزب حاكم يقدّس صورته ويختصر صورة الوطن، حزب ليس أكثر من عنوان أو خيمة لمراكز قوى متماسكة بحكم الارتباط بالفساد المنظّم لا بالوطن، الكورد ثاروا على الخوف الممزوج بحليب الأطفال على الخوف من غفوة الفجر ومن غياب الأب المفاجئ وضياع الأخ والابن، الكورد ثاروا على الخوف من الكتاب والكلمة بتقارير كيدية، الكورد ثاروا لأن الزيتون العفريني يخاف الليل وكوباني الصمود تحارب مارقي الدماء وقامشلو مدينة الحبّ تعلن نفسها منبعاً ومصبّاً لإخاء، الكورد ثاروا من أجل غد بلا خوف، بلا قمع، بلا استبداد، بلا خيانة، من أجل التحرّر والاستقلال.
تقترب الحرب في سوريا من نقطة النهاية، وفقاً لتوقّعات العديد من المراقبين وخبراء الحروب، ولكنها ستكون نهاية غير طيّبة للملفّ الكوردي في غربي كوردستان، إذ يشمّ المواطن الكوردي نكهة صفقة سياسية مُرّة بين الأتراك والأمريكان، خاصّة بعد إفراج أنقرة عن القس الأميركي «أندرو برونسون»، واستعادة الليرة التركية عافيتها ولو في استقرار نسبي في البورصة العالمية، كما تمكّن نظام بشار الأسد من فرض حالة استقرار عسكري مؤقّت للسلطة، أما دور أمريكا فهو موضع شكّ وحيرة وقلق للقادة الكورد في غربي كوردستان المشتتون سياسياً والمنقسمون حزبياً، ويكمن مصدر هذا الشكّ في حدوث تحوّل كبير في السياسة الخارجية الأمريكية بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً، مع إدراك متزايد بأن ممارسات الحرب الباردة قد عادت مع رغبة في الانتقام.
لدى أمريكا وتركيا أجندات سياسية وقوّات مسلّحة متاحة لإحداث تغييرات سياسية وعسكرية في الجغرافية السورية، ولكن المصالح المتضاربة للجانبين ستجلب المزيد من نقاط الضعف والفوضى، إذ إن تركيا تكره تنظيم داعش علناً وتعمل معه كباقي اللاعبين سرّاً، وترفض وجود الجماعات الكوردية المسلّحة، وأمريكا تريد القضاء على داعش، مع إنشاء ملاذ آمن مؤقّت للمعارضة السياسية لنظام الأسد والكورد، الذي وفق استنتاجات العديد من المراقبين والمحلّلين سيكون انتصاره مؤقتاً، وستغادر القوّات الروسية بعد التباهي علناً بضرب أمريكا في سوريا، وستترك للأسد الخراب والدمار، وتخيّره بترأس اقتصاد هشّ مع وجود جيش وشرطة سرّية متناقضين إلى حدّ كبير مع ديون سياسية واقتصادية لإيران وروسيا إلى أجل غير مسمّى.
تتركّز جهود كلّ من النظام السوري والأتراك على مدينة منبج الواقعة غربي نهر الفرات، إلا أنها بمثابة مختبر لتنفيذ بقية الاختبارات في شرقي النهر أيضاً، وتحديداً كوباني وقامشلو، فالاتفاق بين واشنطن وأنقرة الذي تمّ في حزيران/يونيو الماضي من هذا العام، لم يدخل بعد حيّز التنفيذ، وهو ما يشي بأن الأمريكيين يماطلون الأتراك بقصّة التدريبات المشتركة التي بدأت في تركيا أخيراً، بعد نحو أربعة شهور على الاتفاق، ولم يبدأ تسيير الدوريات المشتركة حول مدينة منبج ولا حتى داخلها، والتي تسيطر عليها المجلس العسكري المعيّن من قبلها.
المؤكّد أن تركيا لن تجرؤ على مهاجمة مدن شرقي الفرات، التي باتت محمية من قوّات أكاديمية رمزية من أمريكا وفرنسا، إضافة إلى قواعد ومطارات عسكرية أمريكية، لكنها تمارس ضغطاً سياسياً قد يزداد وزنه إذا أضيفت إليه الضغوط الروسية على واشنطن، لإنهاء وجودها غير الشرعي حسب تعبير “سيرغي لافروف” وزير خارجية روسيا؛ ومجموع الضغطين الروسي والتركي قد لا يعنيان شيئاً بذاتهما، لكنه يتقاطع مع نيّة دونالد ترامب عنها بسحب القوّات الأمريكية من الأراضي السورية، تلك النية التي كبحتها المؤسّسة العسكرية، مؤقتاً، إلا أن الأمريكان سيتعشّون بالكورد في شرقي الفرات لو وقّع النظام السوري معاهدة سلام مع إسرائيل بإشراف روسي أمريكي دولي وإقليمي، مقابل تنازل تركي عن الصفقة العسكرية مع روسيا، وتحجيم النفوذ الإيراني، واحتمالية أن يصبح ذلك قيد التنفيذ واردة وكبيرة جدّاً.
إن تنفيذ خطوة التخلي الأمريكي مجدّداً عن الكورد سيبدأ أولاً بالتصريحات الإعلامية التركية، بتطهير شرقي الفرات من الإرهابيين – في إشارة إلى قوّات الحماية الشعبية التي أثبتت قدرتها على مواجهة تنظيم داعش والانتصار عليه بمساعدة جوية من التحالف الدولي وقوّات البيشمركة – وثانياً بالقصف العشوائي للمناطق المأهولة، وتفعيل العشائر العربية والتركمانية ثالثاً، هذه العشائر التي أصبحت ورقة مهمّة وحيوية تتهيّأ للعب دورها، والدليل الأكبر أن الأتراك تنازلوا عن إدلب لصالح الروس، مقابل منح الأخير الضوء الأخضر لتركيا في أن تضرب شرقي الفرات، بعد عودة علاقاتها مع الأمريكان.
وراء كلّ غزل أمريكي للكورد هناك كارثة إنسانية تنتظرهم؛ الكورد المنقسمون بين مَن هم جنود تحت الطلب، وبين مَن لا حول لهم ولا قوّة. فترامب ومن خلال تغنّيه بالكورد أراد تحذير دول إقليمية فاعلة في الشأن السوري والعراقي، وأن يكونوا كما تريدهم أمريكا، عندما أجاب على سؤال “مجيد نظام الدين” مدير مكتب قناة رووداو في نيويورك في وقت سابق “لقد قاتلوا من أجلنا، لقد ماتوا من أجلنا” ومن ناحية أخرى قام بتخدير الشعب بمشاعر التجّار المعسولة وثرثرة خطابية عندما أعلن تضامنه قائلاً “لم ننسَ، ولا ننسى، وأنا لن أنسى ذلك الشعب العظيم، هذه أرضهم، علينا مساعدتهم، وأريد مساعدتهم”، والدليل معارضة أمريكا للاستفتاء والدعم الميداني والسياسي للحشد الشيعي ضد الكورد في كركوك، وربّما قريباً في غربي كوردستان، وتحديداً شرقي نهر الفرات، فروسيا جعلت من عفرين غداءً لها، وأمريكا ستجعل من كوباني وقامشلو وديرك عشاءً على شرف الأتراك والإيرانيين.
جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين يبحثون عن مصالحهم التكتيكية والإستراتيجية في الشرق الأوسط، حتى لو كانت مع إسرائيل ولو بشكل علني، إلا الكورد لا زالوا يبحثون عن حلول تخلّصهم من صنّاع الانشقاقات وحالة الانقسام السياسي وعدم القدرة على تبنّي مشروع ورؤية سياسية كوردية موحّدة، إذ على الكورد أن يبحثوا عن مصالحهم بدل أن يكونوا نُدُلاً في كلّ طبخة ومعركة وصفقة، حتى لو كان عند أمريكا أو روسيا أو إسرائيل.