ماجد ع محمد
باعتبار أن للمواطن العالمي المنشود حق حرية التنقل والمكوث والتنفس في أكثر من بيئةٍ ومربعٍ ومضارب، فللأوعية المعرفية التي تخص نشر الوعي وتخدم مسار التنمية البشرية نفس الحقوق على الأوادم وأزود، فالكتاب الذي نحن بصدد الإشارة إليه إذن هو أشبهُ بلُقية قديمة جديدة تتضوّع بكل ما يُنعش فكر الإنسان، وكائنٌ حي له الحق في ملامسة أكثر من يد، والدخول إلى أكثر من ردهة أو مكان، هذا ما يلمح إليه الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل بقوله: “إن المكتبات كائنات حية ومن الجرم أن نقتلها في بيوتنا”
ما يعني بأنه من الخطأ الجسيم أن تتحول الكتب إلى أدوات للزينة في مكتبات المنازل أو صالوناتها، كأية قطعة أثرية توضع لإضفاء مسحة جمالية كفازة يقتنيها سكان البيوت للدوكرة وكتتمة تذويقية في هندسة المنزل، وأنه من الأفضل للكتب التنقل والتداول بين الناس حتى ولو كان لتلك الكتب وضعها الخاص جداً لدى مَن اقتناها، والحض بالتالي على الإعارة والاستعارة لتعم الفوائد الموجودة في المكتوبات، والتأكيد على أن إشاعتها أفضل دائماً من حبسها في أماكن خاصة لا تطالها الأيدي إلاّ في المناسبات، ولا تتحسسها الأنامل إلاّ وقت الحاجة الماسة إلى عويصةٍ يظن المقتني بأن حلها موجود بين صفحاتِ كتابٍ من الكتب لديه.
ولكن رغم أهمية ما قيل إلا أنه ربما فات مانغويل ظاهرة التطفل المنتشرة في بلادنا لدى بعض العاملين في الحقول الثقافية خاصة، والجماهير العريضة بوجهٍ عام، بما أن الظروف المعيشية أثّرت سلباً على أخلاقيات المجتمعات، إذ ليس كل من استعار شيئاً أعاده إلى صاحبه، وأن قلة من الناس من يكونون أوفياء بخصوص الأشياء التي يستعيرونها من أقرانهم، وذلك سواء أكانت الأدوات المستعارة هي للاستعمال الخاص والشخصي أو العام، علماً أن بعضهم يلجؤون إلى فلسفة عدم الوفاء ليس من باب الفقر المدقع، إنما قد يكون للأمر علاقة بالتكوين الاجتماعي والثقافي والتربوي، ولا شأن للظروف الاقتصادية الحرجة وندرة المال بسلوك عدم الوفاء مع أغراض الآخرين وأشيائهم التي يتم استعارتها، والدليل أن بعضهم قد تراه مبذّراً أمواله هنا وهناك ويصرف مبالغ كبيرة لإشباع نزواته الشخصية تلبيةً لحاجاته الغريزية التي قد لا تدوم سوى دقائق معدودات، وذلك في الوقت الذي يبخلون فيه على أنفسهم بشراء أشياء أو أدوات معرفية أو إنتاجية قد تفيدهم إن اقتنوه وربما تفيد غيرهم كذلك أياماً وشهوراً وربما سنوات.
ومن الأمثلة الحية التي عايشناها في سوريا قبل 2011 أذكر أن أحد الأصدقاء ممن يطيب لهم استعارة الكتب سواء من أجل القراءة أو من باب الظهور بمظهر المهتم بالثقافة في مناسباتٍ أو مناخات معينة، وقد عُرف عنه في الوسط الذي كنا جزء منه، بأنه شحيح جداً في موضوع شراء الأوعية المعرفية والثقافية، سواء أكان الوعاءُ المعرفي كتاب أو مجلة أو كاسيت أو فيديو، مع امتيازه بعادة عدم الإيفاء بالذي يستدينه أو يستعيره أو يستأجره، وقد طلب الشخص مني حينئذٍ كتاب الغربال لميخائيل نعيمه، ولمعرفتي السابقة بأطباعه لم أتجرأ لأقول له آنذاك تفضل إلى البيت وخذ حاجتك، إنما ومن باب الاحتياط المشبوك بالاحتراس قلت له: مُر عليَّ غداً وخذ الكتاب معك، حيث أعطيت نفسي مساحة التفكير قبل اتخاذ قراري باعطائه ما يبتغيه، وذلك بناءً على المسموعيات السلبية عنه بخصوص التطفل والاستهتار بأشياء الغير وعادة الجحود لديه، فقلّبت الموضوع حينها على نار التفكير، وقلت بيني وبين نفسي بأن الكتاب موجود في مكتبتي، ولكن الكتاب ذا طبعة راقية وعليه ملاحظاتي الشخصية، ورأيت بأن أفضل طريقة هي أن أتخلص من الموقف بأقل ضرر، لذا قصدت ساحة سعدالله الجابري التي تتوسط مدينة حلب صباح اليوم التالي، وحيث كان ثمة بائع للقراطيس المستعملة يضع كتبه على حائط الحديقة العامة الملاصق للساحة، فاشتريت الكتاب بـ:25 ليرة سورية وعدت إلى المنزل منتظراً قدوم طالب الكتاب، فأعطيته إياه حين مجيئه ومن يومها لم يعد الكتاب كما توقعت، قائلاً في سري آنئذٍ فلأخسر 25 ليرة أفضل من أن أفقد ما كان أثمن منه.
وهذا للأسف كان حالنا مع نماذج عدة ممن ينتمون إلى عالم الفن والأدب، مع العلم أن العينات التي نتذكرها قد يرى المرء واحدهم وهو لا يحرم نفسه من الكماليات الحياتية قط، بينما الحاجات المعرفية الجوهرية يظلُ بخيلاً بها على نفسه وعبئاً فيها على الآخرين، عموماً بخصوص بعض من تعودوا على الاتكاء السمج، فكان ثمة من ينتقدني على عدم مطالبتي مَن يستعير مني نقوداً أو قطعة ما من الأدوات المعرفية أو الانتاجية، بينما كان ردي حينها بأن من إحدى استراتيجياتي الحياتية أن أعطي ولا أطلب، ليس لأني سيّد كريمٌ سخي، وليس لأني متخلٍ عما كان لي من باب التعفف والتزهد أو من فيض ما أملك، إنما لأخرج بأقل الكلفة المادية أو المعنوية مع من دخلت معهم فصل التجريب، إذ كانت من ضمن أساليبي في التعاطي أن أعير المُطالِب ما كان قليل الكلفة بداية لقناعتيي بأن مَن كان كريم الطبع فستُبدي سجيتّه حين التعامل مع القليل وكأنه كثير، أما المستهترُ والمتعكّز على الغير فيما يتعلق بالمال أو بأشياء تخص نهل المعارف فسنتعرف على كُنهه، وربما تخلصنا من عبئه عبر التضحية بالقليل الذي نملكه؛ فإعطاء القليل قد يبعدنا عن مسار الخسارات الكبيرة بعض الأحيان، وفي هذا الصدد أذكر بأنه عند مروري اليومي أثناء ذهابي وإيابي من العمل في مدينة اسطنبول التركية كنت أعبر حديقة قريبة من محطة ياني كابه ما يزيد عن سنة، وكان يمكثُ في الحديقة بعض مدمني شهق مادة الصرصيون التي يستخدمها الحذاؤون في صناعة الأحذية والاسكافيون في تصليحها، وذلك للحصول على النشوة من خلال سحب رحيق تلك المادة التي لها مفعول المخدرات، وكنت أحتفظ عادة في جيبي بليرات معدنية تركية، فما أن يقترب أحدهم مني بقصد المال لقضاء حاجته التخديرية تلك حتى أناوله ليرةً وأمضي في حال سبيلي، وتلك الليرات القليلة حقيقةً كانت تقوم بفعلٍ وقائي ضروري في تلك الحديقة التي كان المرور عبرها يتخلله بعض المخاطر، مؤكداً في سري بأن التضحية بالقليل قد يجنب بعضنا ما كان كثير السوءِ، كما أن من عادتي وإن لم أكن في وارد إعطاء المتسوّل شيئاً، إلاّ أني لا أتقصّد إحراج أي مستعطي حتى وإن كنتُ مدركاً تمام الإدراك بأنه قد اتخذ من الاستجداء مهنة يومية له.
وهنا أقرُ بأني كثيراً ما كنتُ أحسدُ أحد المشايخ في قريتنا ليس في الطريقة الصِدامية مع المتسولين أو مع أي شخصٍ يطالبه بعٌدة العمل أو التصليح، إنما على جرأته في التعاطي مع من يأخذون الشيء بدون أن ينتابهم هاجس التفكير بإرجاعه، أو من تعودوا على الاتكال على الغير بخصوص الأدوات والحاجيات التي يعوزها القروي بشكل دوري في حياته المديدة، حيث كانت العادة لدى الشيخ محمد عمر أحمد، أنه إذا ما جاءه أحدهم وطلب منه رفشاً أو معولاً أو مطرقةً أو منجلاً أو مفك براغٍ أو أية أداة من الأدوات التي يحتاجها القروي، فلم يكن الشيخ محمد يكذب على الطالب الذي استهدفه بالطلب، إنما كان يتجه مباشرةً إلى مغارته، ويأتي بالأداة التي طالبها الجار فيقول لمن أراد استعارتها: هذا هو الذي تطلبه، هو موجود، ويعمل بشكلٍ جيّد، ولكني لن أعيرك إياه! فينصرف الطالب عندها وقد خالجه شيء من الأسف والغيظ الوقتي، حيث أن المفارقة في أمر الشيخ محمد وعادته الغريبة أن جميع مَن في قريتنا كانوا قد حفظوا طريقته في التعاطي ولم يكونوا ينزعجون منه، إنما يقبلون رده بدون أن يترك الموقف أي أثر للحقد لديهم، حيث كانت حُجة الشيخ محمد أن ما من شيء تعيره لأحد يعود كما كان، بل ولم يلجأ الشيخ إلى تلك الطريقة في التعاطي إلاّ بعد أن أعار الغير بعض أدواته الضرورية التي خرجت من المغارة ولم تعد؛ أو خرجت سليمة صحيحة ولم تعد إلا وهي كسيحة أو عرجاء.
أما عن آلية الشيخ محمد وسر لجوئه إليها علمتُ فيما بعد من بعض معاصريه منهم: محمد علي حسن(أبو رمزي) وحج جميل حسن(أبو طلعت) بأن المرحوم الشيخ محمد كان مأخوذاً منذ أيام فتوته بجملة مؤثرة لخالته زوجة أبيه التي كانت تدعى ميموmêmo ، حيث كانت الألسن في القرية تردِّد عبارة ميمو الشهيرة ” إن أشياؤنا تغادرنا نضرة مبتسمة بينما لا تعود إلينا إلاّ وهي شاحبة باكية”، حقيقةً بالرغم من أهمية ما يشدِّد عليه مانغويل بخصوص مشاعية أدوات المعرفة والحض على مشاركة الآخرين في الذي نمتلكه من أوعية الثقافة وخاصة الكتب، إلاّ أني وبحكم التجارب الشخصية المزعجة نوعاً ما مع نماذج عدة من المتكئين والمتطفلين فلا أستطيع أن أتناسى الأسباب السلوكية التي دفعت بالشيخ محمد ليأخذ ذلك المنحى السلوكي طوال حياته، ولا تجنب ما كانت تقوله الخالة ميمو بخصوص بكاء أشيائنا حين الرجوع إلينا.