عندما تحتضر مدينة هي قامشلي.. «عن زيارتي الأخيرة إليها ما بين 18 تموز- 19 آب 2018 »

ابراهيم محمود
8- أكره اللغة الكردية :
أكثر ما أخافني في زيارتي هذه، هو سماعي في أكثر من مكان، وعلى لسان ” طفلنا الكردي؟ “، كلما أُتيَ على ذكر لغته، عبارة ” أنا أكره اللغة الكردية “. ولا أعتقدني مجانباً للصواب، أن هناك نسبة لافتة من الكتاب: اليافعين والراشدين قد أفصحوا عن شعورهم هذا. لا بد أن أعبّر عن شعوري بالمقابل بالصدمة، لكنها صدمة تلاشت سريعاً، جرّاء السياسة التربوية القسرية في التعليم، سياسة لا تفصح عن محتواها التربوي والقائم على أسس نفسية ومنهجية معاصرة .
حتى الأمس القريب، كان هناك من يتابع برامج تلفزيونية، وأفلام كرتون للصغار، صغاراً وكباراً، باللغة الكردية، لكن الجاري راهناً هو تدنّي النسبة إلى حد كبير، وهو ما يجب التعرض له، وكوني معنياً بهذه العملية بالذات، وليس من منطلق كرديتي بالذات، إنما من صلب الفكرة والتي تعزز المقولة التربوية السوية في أي عملية تعليم: مدرسية وغيرها .
إلى جانب تحدّ أعظمي في ضوء انتشار أجهزة الموبايلات والآيباد وإدمان الصغار عليها، وما تعرضه من مشاهد، وحتى صور أو ألعاب تنتمي إلى مجتمعات أخرى، وبلغتها الرمزية، تمارس أحياناً تدميراً للبناء النفسي الهش للطفل، وتحيله قنبلة موقوتة اجتماعياً .
بذلك، يمكن للطفل أن يكون الشاهد على مدى سلامة أي مسلك تربوي ومردوديته  في التعليم، من خلال طرق التواصل المدرسية معه. حيث إنه يعيش في وسط يستحيل اعتباره كردياً، إنما هناك آخرون، وهم في ازدياد، كما أسلفت سابقاً، وهو حضور كمي وكيفي بالمقابل، ولهم نفوذهم في أي مستجد أو متحول اجتماعي نتيجةً: في الشارع، في الحي، في السوق خاصة، ثمة العربية. عدا عن ذلك، لا بد من التشديد على الحافز التربوي وهو يكاد ينتفي، ويعتمد على عدة عناصر: المادة التعليمية ومناهجها- القائم بالعملية التعليمية- البيئة الدرسية…ولا شيء مما تقدَّم يحتفظ بتلك السوية التربوية ليتمكن من استمالة الطفل ليكون طفل معرفة.
كيف يمكن لطفل كرديّ الأبوين أن ينطق بكراهيته المباشرة للغته، وبمثل هذا السفور الذي تلمسته؟ علينا أن نجهر بالحقيقة، لئل نخسر من هم أملنا الأخير، حقيقة أن طفلنا ليس بالعيّاء، إنه يدرك بأحاسيسه، بحواسه، وهو الضابط الفعلية لمدى سلامة كل ما يراد نقله إليه.
إن البلبلة القائمة في عملية التعليم لا تخفي صراعيتها. وما يدفعه الكرد من ضريبة تؤثر سلباً في مكانتهم، وطريقة تفكيرهم، وأسلوب تعاملهم مع المستجدات، حيث المتبقون هم أطفالنا، وليس من جيل وسط” من ناشئة ” وحيث مئات الألوف من الشباب حلوا خارجاً وتستحيل عودة الأغلبية منهم، ويعني ذلك أن الكرد محكومون بالانقراض التدريجي .
ثمة الكثير من الكتاب ومن في مصافهم، يكررون بصورة آلية، كما لو أنهم يلقّنون ميتاً مدفوناً للتو، وبعيداً عن أي اعتبار تاريخي وثقافي: الكردية، كلغة، هويتنا.. ولجلادت بدرخان الحضور الأكبر في هذه اللازمة.
ألا ليت هؤلاء المفقَّهين أن يحيطوا أنفسهم علماً بحقيقة مقام جلادت، الذي مارس النطق بالتركية طفولة وتالياً، كما يقول تاريخ سيرته الفعلية، وقد تعلمها أكثر من الكردية، تقديراً منه أنه يعيش في وسط تكون التركية ضرورية له في الثقافة والتواصل الاجتماعيين، ومن أجل هدف يعني كرديته بالذات، أي إنه مارس كتابة الكردية والتكلم بها، دون أن ينحّي التركية جانباً لمعرفته أنه بأمس الحاجة إليها عند اللزوم” وما أكثر لزومات الكردي هنا “.
والذين ” يجلْدنون اللغة الكردية: من جلادت ” باعتبارها هويتنا القومية، وهم لا يخفون تعلمهم للعربية قراءة وكتابة. تصوروا جيلاً من أطفالنا لا يعرف سوى الكردية ” الصراطية ” وفي وسط واسع النطاق تكون الكردية إحدى لغاته، أي غربة يعاني، وأي حياة يعيش ؟
اللغة هويتنا، نعم، عندما تكون هذه الهوية معلومة بحدود قائمة، ودون أن يعني ذلك قطع التواصل مع الآخرين ومن باب الضرورة.
أعني بذلك، أن مفهوم اللغة لا يأتي هكذا سلقاً، إنما يكون لها نصابها الجغرافي السياسي، ومن ثم السياسي والاجتماعي. وأن أتكلم اللغة الكردية، لا أعني أنني جسَّدتها قلباً وقالباً، فثمة أحداث ووقائع، وحتى الآن، تشير إلى وجود كم معلوم، يراهنون عليها، وهم دونها تمثيلاً.
وكلنا يعلم، أن شعوباً كثيرة في كل من أميركا اللاتينية وأفريقيا تتكلم بلغات أوربية، لكنها على أشد ما يكون تمسكاً بهويتها القومية، وإن جاءت كتابتها بتلك اللغات. وأن يتقن الكردي العربية أو الفارسية أو التركية، في ضوء المعيش اليومي، يكون أقدر على تمثيل نفسه، والقدرة على الانتشار وتأكيد الذات، إن قابلناها بحالة من يزعم أنه كردي، فقط لأنه يتكلم الكردية ويكتب بها، وما عدا ذلك في عزلة عن العالم. إنها معادلة لا أعتقد أنها تفهَم بسهولة في ضوء ” تمزقاتنا “.
إنها ليست دعوة للتخلي عن الكردية كلغة، وإنما وضعها في إطارها المكاني- الزماني الصحيح.
أترانا ما زلنا نؤمن بأن القوة وحدها تعلّم وتقلّم وتنظّم، أم تجرّم وتحرّم وتلغّم وتهدّم ؟
لمن يهمهم أمر اللغة بصوفيانيتها المابعدورائية:انتظروا فاجعة القادم وفي الغد القريب جداً، جرّاء ما تقدم، وأي طلاق سيحصل بين الكردي ولغته، وبأكثر من معنى !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم ويوم على سقوط الأسد، لكن الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم يتجاوز بكثير الساعات التي مضت. هذه الأشهر الماضية التي تنوف عن الثلاثة كانت مليئة بالتحولات السياسية غير المنتظرة، إلا أن الواقع الأمني والمعيشي للمواطن السوري لم يتحسن بل ازداد تدهورًا. إذ من المفترض أن يكون تأمين الحياة للمواطن السوري هو أولى الأولويات بعد السقوط،…

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…