إدريس سالم
للكذب علاقة وطيدة بالسياسة، بل لعلّه لا يجد تربة أخرى صالحة للترعرع كما يجدها في السياسة، خاصة التربة الكوردية، حيث أصبحت القدرة السياسية تقاس بمدى القدرة على الكذب، وتغليفها بمصداقية زائفة واللعب بالأذهان وتدمير القدرات، وأصبح السياسي الناجح هو السياسي القادر على إظهار كذبه بمشاعر صادقة، بغية التأثير في الجماهير وإخضاعها، محاولاً إخفاء الحقائق وإظهار نفسه، وكأنه الصادق الأمين على مصالح الشعب، إذاً السياسة بقدر ما هي صناعة للحقيقة هي صناعة للكذب «مَن يحجب الحقيقة على مَن؟ الكاذب أم الصادق؟».
يبدو أن القضية الكوردية في غربي كوردستان لم تعُد تحظى – هذا إن كانت كذلك بالفعل – بمكانة مركزية في الكيانات الكوردستانية السياسية ومؤسّسات القرار الدولية الحاكمة، ولعلّ الانتقال من عبارة الصراع على تحقيق الاستقلال إلى الصراع حول تأمين متطلّبات العيش الاجتماعية والثقافية ضمن السورية الموحّدة، يعبّر بشكل فعلي عن استقالة القيادات والمسؤولين الكورد من الصراع القائم، من دون أن يعني ذلك غياب كوردستان، بوصفها قضية باتت ثانوية لدى الدول التي تدير أزمات الشرق الأوسط.
يكفي أن ننظر إلى ردود أفعال الكورد على إثر المعركتين الأخيرتين في كركوك وعفرين، على أنهم يشعرون وبيقين كبير على أن حلم الاستقلال لن يتحقق، ولو بعض ربع قرن، وأن الفيدرالية الكوردية في غربي كوردستان ذهبت أدراج الرياح، والحكم الذاتي الوهمي ما هو إلا حكم ذاتي بنكهة بعثية، بدليل ما يُطبخ خلف الكواليس من سموم وهموم، سيتجرّعها الكورد في غربي كوردستان، ليعودوا إلى ما قبل عام 2000، أضف إلى ذلك تأثيرات الهجرة والتهجير ونشر الجهل والقضاء على العلم ومحاربة كل من ذو ضمير يطالب بحقوقه.
زرع النظام – منذ صوغ فلسفة السلطة أواخر السبعينات – قناعة في نفسه وفي نفوس مواطنيه أنه غير قابل لا للتغيير ولا للتعديل، ناهيك عن السقوط بفعل ثورة أو تمرّد. كانت كل محنة أو أزمة يتعرض لها النظام، من الصراع مع «الإخوان المسلمين» أو الحراك الكوردي السلمي بمثابة الفرصة التي يؤكّد فيها البقاء إلى الأبد، في ظلّ مؤسّسه حافظ الأسد ونجله وريثه بشار، فلا شيء يتغيّر إلا بإذن النظام، ولا شيء يهدّد، بل إن كل التهديدات هي فرص لتشديد القبضة على سوريا.
هكذا نجد العديد من المسؤولين الكورد، يندّدون بما آلت إليه الأوضاع في المنطقة الكوردية خاصة والسورية والشرق الأوسط عامة، وتُسارع المجتمعات للاندماج في المجتمعات التركية أو الأوروبية، لكن سرعان ما تهدأ الأمور في سوريا ويتم من جديد التطبيع والتعايش مع الوضع القديم الجديد.
إن القضية الكوردية في غربي كوردستان صارت اليوم هي قضية كوباني أو جزء من قامشلو وشرقها حتى نهر دجلة، وربما ستصبح مستقبلا قضية منطقة ريفية أو قرية، لأن التحلیل بالتمني وبیع الأحلام والتمسّك بقوة لا تستخدم قوّتنا إلا لأجل أن تزداد قوة وشراسة لیس فعلاً واقعياً.
الكورد غالباً ما يتعاملون بعاطفية شديدة وعمية عند قراءتهم للمشهد السياسي الكوردي، والانجرار خلف الأحلام البرّاقة والوعود الإقليمية والدولية المعسولة دون توفر المعطيات أو التعامل العمقي مع الأحداث والتصريحات، وهذا ما يؤدّي إلى نتائج عكسية صادمة للشارع الكوردي، وقد ترمي بقضيتهم وحقوقهم إلى مستنقعات الاستبداد والعنف.
إذن، لا يكفي أن ننظر اليوم للسياسة من زاوية الصدق، فأيّ سياسة لا تخلو من الكذب، إن لم نقل إن تاريخ السياسة هو تاريخ الكذب نفسه، كما لم يعد مقبولاً النظر إلى السياسة كمجال للكذب المتخفي، ذلك التاريخ الذي لم يعد يخفي كذبه ويحجبه، بل صار يكذب متعرّياً، أصبح كذباً صادقاً.
ومن هذا المنطلق، فإن السياسة اليوم هي فنّ إدارة الكذب الصادق. فالكائن السياسي المعاصر لم يعد “يظهر كما يتمنى أن يكون” أو “يكون ما يتمنى أن يظهره”، وإنما أصبح يظهر ما كان يخفيه، بهذا لا يملك المثقف إلا أن يعلنها مقاومة للسياسة بالسياسي: “في أن يكون ديمقراطياً؛ بالاعتراف أننا في عالم لا ديمقراطي”.