عندما تحتضر مدينة هي قامشلي «عن زيارتي الأخيرة إليها ما بين 18 تموز- 19 آب 2018 »

ابراهيم محمود
1-قامشلي في بيتي المتداعي
” ما يظهر في الصورة هو ظهر ” بيتي ” الشرقي الموشك على التداعي، أردته في مقام صورة شخصية لي ، ودون تعليق “
سأكون أنانياً جداً في موضوعي هذا على وجه التخصيص، جرياً على عادة البعض، وربما الكثيرين، فيما هم عليه مسلكاً وتفكيراً، ولو أن المشار إليه أبعد مما هو جار تصوَّره . وسأبدأ من النهاية، تأكيداً على أنانية لي لم أفصح عنها سابقاً بالطريقة هذه. لقد أردت أن يكون لي بيت متواضع على الأقل، وبعد عمر تعدَّى الستين عاماً، إلا أن القوانين ” القائمة ” لم تترك لي قائمة، فتركت بيتي الطيني شبه المتداعي، ومكتبتي المحبوسة بعدة آلافها من الكتب ومجلاتها المتنوعة وسواها في ذمة المصادفات غير السعيدة، وثمة صور في النهاية تعرّف بمظهر هذا البيت المرصود رغم لهاثه من الداخل .
هل يمكن لامرىء أن يكتب تاريخ مدينة، أن يجري تصوير علاقات، أن يقرّب صورة الجاري من البصيرة، وليس البصر، أن يختصر وقائع يمتزج فيها دخان ” الحراقات ” بالسيارات والغبار الذاهل، وضجيج المركبات والناس، ومخاوف القلة المتبقية من أهلها الفعليين، في إطار الحديث عن بيت، هو بيته، وبهذا الإيجاز؟
لا أنتظر إجابة من أحد، وليس السؤال بموجّه إلى أحد، إنما هو إجراء كتابي، ولمن يريد المتابعة، فما أسجّله حول هذا اللقاء ” البيتي ” قد يثير حفيظة البعض، أو فضول آخرين، سوى أن الموضوع يشكل حافزاً للكتابة حول بيت لا رب يحميه، طبعاً، إنما متروك لعبث ما، لسيلان لعاب متخفين، أو راصدين له، ليروه وقد انهار، ليروا مكتبة أودعتها دمي لعقود زمنية طوال، وقد تداعت وتلاشت بدورها، شهادة عيان على مدى تقدير الثقافة من أهلها ” الكرد ” .
على مدى شهر كامل، كان انتقالي من مكان إلى آخر، سعياً إلى إيجاد طريقة لضبط وضع بيتي ” لا بيتي ” غير الرسمي، لأسباب لا أراها بحاجة إلى التوضيح. إنما تلقي ضوءاً على مفهوم ” التنظيم ” وطابعه العمراني ومخطط المدينة بالذات، هو بنية المتحرك القيمي فيها، إذ من السهل النظر في قائمة الأحياء المحيطة بالقامشلي، ومنها ” الكورنيش: حارتي المزعومة “، لرؤية طريقة توضُّع الشوارع والانحرافات الموجَّهة، ولعلي لم أهنأ بحظ كهذا، يجنّب بيتي خطر اكتساح الشارع الذي وجّه بقدرة قادر معلوم، وقص نسبة من العقار، وحديثاً، ورغم اعتماد مفهوم ” الوضع الراهن/ القائم “، يمكن لأي جهة تحريك البلدية القائمة، وتبعاً للنفوذ بالتصرف بمصائر عقارات، أو أراض غير معمرة وحيازتها.
تظهر عبارة ” وجود أملاك عامة ” ضمن عقاري البائس، مطاطة ومثيرة للاستغراب، إذ ماذا تعني هذه العبارة وهي مؤلفة أساساً من مجموعة من الأملاك الفردية وقد صارت جماعية، الخاصة وقد صارت عامة؟ كيف يتم اكتساح عقار باسم القانون ” الوضعي “، ولا يعمَل به لحظة مراعاة ” الأملاك العامة ” ولزوم شرائها؟ كما لو أن المكتسَح خارج الحساب البلدياتي، وحق مهدور، بينما ” الأملاك العامة ” فحق مقدس، بمثابة سيف مسلط على رقاب دون أخرى.
رغم وجود شارعين على أرض الواقع، يتم الإصرار على تطبيق ” القانون “، ودون مراعاة البعد الاجتماعي، أو  جانب الحق الشخصي وهي لا تنفصل عن العامة ، وفي الوقت الذي يجري الإصرار على إضافة ممر، شارع صغير، يزيد طين المكان بلة، كما لو أن بيتي في وضعه هذا أساس البلاء، حيث يمرَّر ممر، شبيه شارع، لصالح من يعتبر محسوباً لهذه الجهة المتنفذة، وهو ما يثير الضحك حقاً. تلك هي القوة الناطقة بلسانها البليغ.
لم أتمكن من فعل شيء، لقد تركت كل شيء على حاله. الشيء الوحيد و” اليتيم ” الذي فهمته هو رؤيتي لبيتي نهب المصادفات، كما أسلفت، بحيث إنه فيما لو انهار ذات يوم، أو اكتسِح كلياً، لن يعرف إلا القلة القليلة من المعنيين بالمكان أن شخصاً ما كان يعتقد أن الثقافة لها ” سلطتها ” أيضاً، أو قيمتها، وسوف ينتبَه إليه، قد سكن هذا المكان لعقود من الزمن وانتهى أمره، تأكيداً على أن الكرد خلاف الأمم الأخرى لا يحتاجون إلى الثقافة البتة وصنّاع لها، إنما إلى ….
في الصور التي التقطتها لبيتي بنصفه الطيني وأكثر، أردتها معرضاً لمن يريد متعة استثنائية، وتبقى الصورة الأخيرة وأنا أسند ظهري المكسور، وروحي المنكسرة إلى باب مثقل بالمواجع، كما لو أنني أخرج من جنازة قائمة، وهي قائمة فعلاً، وأخذل بيتي باسمنته المتواضع، وطينه المتآكل، ومكتبتي المتروكة لعبث أقدار الكرد أولي أمر المكان المزعومين* .
ملاحظة : لم أكتب اسم ” قامشلي ” وليس ” قامشلو ” كما هو المعتاد هنا وهناك كردياً، إلا لأن الذي تلمسته فيها في مجمله خلاف ما كان يعرَف عنها قبل سنوات أي قبل سنة ” 2011 ” المشئومة. كما يطيب لي تسمية ذلك . 
الجدار الخلفي لبيتي ظاهر للعيان، ويقع خلف الشجرة الواقعة في حوش الجار الشرقي
إنها صورة أوضح للجدار في جانب ” حي ” ميت منه
جدار غرفتي الطيني الملاصقة للجدار، والتي تنتظر ” مقص ” منظّمي المدينة
الشجرة المذعورة من الجاري وهي تلاصق زاوية بيتي الاسمنتي العادي من جهة الغرب
لقطة من حائط البيت الطيني داخل الحوش، وهو منسحب إلى إلى الداخل ومتآكل بدوره
لقطة أخرى للحائط المحصور بين بابين بالكاد يسندهما
الشباك الذي يثقل على حائط الغرفة الطينية من داخل الحوش
خلفية الغرفة الاسمنتية الوحيدة وهي تضم مكتبتي حيث تقع على الشارع جهة الغرب
مدخل الصالون وعلى يمينه تقع المكتبة. لا تغرن الناظر رؤية السيراميك، فالمهم هو القائم 
أمام باب الحوش، لحظة الوداع: العزاء الأخيرة 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم ويوم على سقوط الأسد، لكن الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم يتجاوز بكثير الساعات التي مضت. هذه الأشهر الماضية التي تنوف عن الثلاثة كانت مليئة بالتحولات السياسية غير المنتظرة، إلا أن الواقع الأمني والمعيشي للمواطن السوري لم يتحسن بل ازداد تدهورًا. إذ من المفترض أن يكون تأمين الحياة للمواطن السوري هو أولى الأولويات بعد السقوط،…

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…