ماجد ع محمد
“التجاهل جورٌ أقسى من العدوان”
إبراهيم الكوني
تقول الوقائع الحياتية في بلادنا، بأن من لم يكن ابن المكانِ نادراً ما يكون معنياً بسلامة مناخ المكان وحياة أناسه، وعادةً لا يكون ضمير الغريب حياً حيال ما يجري بحق المكان الذي استوطن فيه أو احتلهُ أو استأجره إلى حين، خصوصاً إذا لم يكن ممن أظهر للمكان وأهله من قبلُ شيئاً ملموساً وواضحاً من تباشير الود والمحبة والاحترام؛ حيث يبقى آخر همه حينئذٍ تحقيق رغبات أصحاب المكان أو البحث عن أسباب راحتهم، أو التفكير بمعاش ونفسية أهل المكان، أو المحافظة على أشياء الطبيعة في ذلك المكان.
وبخصوص العلاقة القوية بين صدوع المكان وأهله، يبدو أن مَن صاغوا ومَن ردّدوا فيما بعد المثل الشعبي الدارج في منطقة عفرين كانوا على حق بقولهم birîna li hevala qula li Kendala بمعنى أن الجروح في أجساد الأصدقاء أو الزملاء أشبه بثقوبٍ أو فتحات في الجدران، فلا يعني بالثقوبِ من لم يكن جزءاً من الجدار، ولا يشعر بحرقة ذلك الشقِ إلا صاحبه، وفي هذا الصدد كان الشاعر كريم العراقي قد أورد هذا البيت الشعري في مستهل قصيدة له حيث يقول: “لا تشكو للناس جرحا أنت صاحبه، لا يؤلم الجرح إلا من به ألم”، إذ لا يعاني من ألم الجرح غير المجروح نفسه، ولا أحد غيره يعش حالته، هذا حتى في حال إذا ما ادّعى الآخرُ الشفقة أو عبّر عن مشاعر التضامن مع من به ألمُ؛ والرفاق حسب المثل لا يدركون ما يعيشه المُصاب أو المطعون، ومثالنا الواقعي هو ما تتجرعه منطقة عفرين بشرياً وبيئياً منذ حوالي خمسة أشهر، أي منذ أن تقهقرت السلطة السابقة، وصارت المنطقة منذ منتصف الشهر الثالث من العام الجاري تحت سيطرة مجموعة فصائل سورية دخلت المنطقة بمعية وإشراف الجيش التركي.
ولأن الجرح لا يؤلم إلاّ من عاش تجربة مماثلة أو به جرح، لذا فلا يدري بحال عفرين ومعاناة المقيمين في ربوعها إلا من لا يزال يعيش فيها، إذ حتى الذين كانوا في الأمس القريب، يستغلون سكانها باسم الأيديولوجيا، ويستثمرون أهلها وطبيعتها، ويقامرون بأبنائها منذ سبع سنوات، أي قادة قنديل وقادة (ب ي د) فهم لا يشعرون قط بما يعانيه الماكثون في ديارهم، ممن بقيوا متمسكين بترابهم ولم يلتحقوا بموكب الفارين كما كان مخطّط حزب الاتحاد الديمقراطي والذي بدا وكأنه المنفّذ العملي لمشروع محمد طلب هلال العنصري*؛ ولا الذين دخلوا بغطاء من الطائرات التركية آلمهم شيء مما يشعر به ويعانيه ابن المنطقة، ولا ضباط الدولة التركية تهمهم مواجع المدنيين فيها.
وحيال ما يعانيه المقيمون في المنطقة ولم يغادروها قط، فقد آلمني أنا الغائب عنها منذ أكثر من ثلاث سنوات، سماعُ تسجيلٍ صوتي مُرسل للمجلس المحلي في ناحية جنديريس؛ وفيه ما يشبه البكاء على ما تتعرض له أحراش الصنوبر في محيط قريته، والتسجيل الصوتي المرسل هو لأحد أبناء قريةٍ كان عناصر الفصائل المتمركزة بالقرب منها هم من تسببوا بإشعال الحرائق بالغابات المتاخمة للقرية حسب التسجيل الصوتي وأقوال الأهالي، وذلك من خلال استهتارهم بالبيئة مثل استخفافهم بحياة سكان تلك البيئة، ومن ضمن ما ذكر الرجل وهو يتقطر أسىً على موت الأشجار من حوله حيث قال: بأن طوال عمره السبعين لم يشهد الحرائق وهي تلتهم تلك الأحراش، وأن والده الذي عاش 107 سنوات لم يقل بأن هذه الغابات احترقت يومياً، وأن جده الذي عاش 110 سنوات لم يذكر أي حادثة عن احتراق تلك الغابة، إلاّ أنه ومنذ أن استقدمت الدولة التركية هذه الفصائل، والحرائق تنتقل بسبب طيش واستهتار وكره الكثير منهم للطبيعة وناسها من جبلٍ إلى جبل؛ بينما الدولة التركية المسؤولة عن ممارسات الفصائل فلا تحرك أي ساكن حيال كل انتهاكاتهم بحق البشر والشجر!.
حيث أن التصرفات اللامسؤولية لدى عناصر الفصيل حسب أهل القرية وإطلاقهم الرصاص العشوائي أدى إلى حرق الغابات المحيطة بها من دون أن يشعر المتّهمون بأي عار على ما اقترفوه، ومن دون أن تنزل الدولة التركية المسؤولة عن أرض وسماء، بشر وشجر المنطقة، أية عقوبة بمن كان وراء اندلاع الحرائق ليس في هذه القرية وحسب إنما عمن كان وراء مسلسل الحرائق في عموم غابات المنطقة التي تتعرض للإلتهام منذ أكثر من شهر؛ إذ أن الأطراف التي بسطت سيطرتها على المنطقة خلفاً لحزب الاتحاد الديمقراطي لا يهمها شيء عن بيئة المنطقة وصحة مناخها وسكانها، بينما بالنسبة لأبناء المكان فإن احتراق كل صنوبرة فيها هو أشبه بلدغات النيران لأجسادهم.
والغريب حقاً بخصوص استهداف الغابات بعفرين في الأونة الأخيرة، وعدم إيلاء الضباط الأتراك الموجودين في المنطقة أية أهمية للجانب البيئي فيها؛ هو أنهم يتصرفون هناك بخلاف توجهات أغلب الأحزاب في تركيا وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي شمل برنامجه الانتخابي لعام 2018 وعوداً “تتعلق باستكمال النقص الموجود في البنية التحتية في المحميات الطبيعية، وكان من ضمن وعوده الانتخابية التي وردت في برنامجه، هو رفع مساحة الغابات في تركيا بحلول عام 2023 إلى 233 مليون ديكار أي حوالي %30 من مساحة البلاد”*، فعندهم زيادة المساحات الخضراء هو جزء رئيسي من برامج الأحزاب السياسية والحكومة، بينما حرق الغابات في ديارنا فلا أهمية له لدى ضباط ونقاط الجيش التركي في عفرين!!!
كما أنه بالنسبة إلى الانتهاكات المتكررة والممارسات الجائرة من قبل السلطة العسكرية الجديدة، ذكر العشرات ممن يقطنون المنطقة في الوقت الراهن، بأنهم لا يستطيعون نكران الإحساس الدائم بأنهم يتعرضون للانتقام المزدوج.
أولاً: من قبل أكثرية عناصر الفصائل الذين حشيوا بآيات العنصرية منذ أيام تلقيهم العلوم من حظائر حزب البعث الاشتراكي، وقد زادهم الحقد على الكرد بعض إعلاميي ونشطاء الثورة الذين انتقلوا من محاباة الأسد إلى محاباة رئيسٍ آخر، إذ كما كان التودُّد والمحاباة قبل الثورة لا يتم إلاّ على حساب من لا يعظمون ويمجدون الحاكم، فبعد الثورة كذلك الحال فالمحاباة لا تكون إلا على حساب من لا يطبل لحاكم آخر اختاره المتملقون بعد تخليهم عن التطبيل والتهليل للمعبود الأول.
وثانياً: من قبل الجهات المشرفة على عمل تلك الفصائل، إذ بالرغم من تقديم عشرات التقارير من قبل المنظمات الحقوقية إضافة لشهادات أصحاب الشأن والمصداقية في المجتمع المحلي، فإنه لم يتم الأخذ بها محمل الجد من قبل السلطات المسؤولة عن عمل الفصائل، وهذا ما عظّم من رصيد الأحاسيس السلبية لدى عامة الناس في المنطقة، والشعور بأنهم يتعرضون للانتقام الضمني من قبل الضباط الأتراك في المنطقة؛ الضباط الذين من كرههم لحزب العمال الكردستاني ورديفه السوري (ب ي د) يصبون جام حقدهم على المدنيين الكرد العزل وحتى على تضاريس المنطقة، رغم معرفتهم المسبقة بأن المنطقة خالية تماماً من أنصار قنديل وأتباع (ب ي د)، كما أنه بالرغم من تلقيهم المتكرر تقاريرَ عن السلب والنهب والسطو والابتزاز والاعتقالات المزاجية التي تجري بحق المدنيين العزل من قبل الكثير من عناصر الفصائل، وملاحظتهم لأغلب انتهاكاتهم إلا أنهم لا يحركون أي ساكن! ويرون النيران وهي تلتهم الغابات أمام أعينهم من قبل أدواتهم ولا حتى مجرد التوبيخ يوبخونهم! إنما يتقصدون التعامل مع كل ما يحصل للأهالي وممتلكاتهم بتجاهلٍ غير مفهوم كنهه، ولكنه تجاهل أشبهُ بالطعن، وهذا التجاهل المتعمد أقرب إلى حالة من يُبارك ضمنياً كل ما يحدث للمنطقة وسكانها الأصليين عبر تلك الأدوات.
على كل حال فإن هذه الآلية التي يتبعها ضباط تركيا في عفرين حسب نشطاء المنطقة، تُظهر لمفسّر سلوكياتهم بأن حال أغلب الضبابط والمسؤولين الأتراك في المنطقة هو كحال مَن طابت له الفُرجة وهو من على المنصة يتابع المَشاهد اللاإنسانية تُرتكب قبالهُ، ولكنه كشخص غير معني بالمكان وبمن تُنغص حياتهم فيه، فهو بناءً على ذلك يتعامل بكامل الحياد والبرود مع كل ما يرى ويجري أمامه، بالضبط كما يتعامل المُشاهِد المستريح على المدرج مع لاعبين هُدرت حياتهم في الحلبة أمام المتفرجين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد طلب هلال/ رئيس الشعبة السياسية بالحسكة/ صاحب كتاب “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الإجتماعية، السياسية” صدرت الدراسة عام 1962 .
* سعيد الحاج/المعهد المصري للدراسات / البرامج الانتخابية للأحزاب التركية/ https://goo.gl/mxMT9R