إدريس سالم
كلّ شخص له أفكاره الخاصة به، له آراءه حول مجريات الحياة، له آماله وآلامه وأحداث حياته المهمة وغير المهمة، كنا سابقاً نحتفظ بتلك الأشياء داخل عقولنا أو نشاركها مع أفراد أسرنا أو بعض أصدقائنا المقرّبين، نعم الإنسان مخلوق اجتماعي بطبيعة الحال ويتفاعل مع مَن حوله ويشاركهم ما عنده، لكن مفهوم المشاركة تغيّر بشكل كبير بعد ظهور المواقع الاجتماعية، الآن الكل يشارك أفكاره وآراءه وأحداث حياته عبر هذه الشبكات. رزقك الله بمولود، تذهب مباشرة إلى الفيس بوك وتكتب (بحمد الله، رزقني الله في هذا اليوم طفلاً جميلاً)، وتتوالى عليك التبريكات ونقرات الإعجاب. تدخل المشفى، تلتقط صورة بثياب المرضى مع الممرّضة أو الطبيب وتنشرها في الانستغرام، لتشارك تلك اللحظات القاسية مع متابعيك، تستاء من موقف سياسي فتدخل تويتر، وتغرّد ممجّداً أو مندّداً.. إذاً حياتنا أصبحت مجموعة متفرقة من المشاركات هنا وهناك.
كشف عورة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي بدل سترها هو ما يجب أن تعزّزه الكتابة، لا أن نسكت ونصبح شركاء في خلق الفوضى وهدم الجيل الجديد جنسياً أو دينياً أو اجتماعياً. علينا مواجهة قضايا تجنيد الأطفال وسرقة الممتلكات وتخوين الشرفاء وتوحيد الجهود والصفوف ونبذ العنف والحقد بنقدها وتحليلها وتوضيحها، فالكتابة ليست ترفاً فكرياً أو انتقاماً نفسياً.
لا يمكنها أن تكون ترفاً لأنها ببساطة لا تندرج في خانة الكماليات الحياتية، لسببٍ بديهيّ وهو أنّها لا تمنح بالضرورة مالاً ولا جاهاً ولا سلطة لصاحبها، مهما كان منتجاً ومبدعاً وألمعياً، ولا يجب أن تكون انتقاماً نفسياً، فالانتقام من المخطئين أو المسيئين لا يجب أن يتم عبر الكتابة المباشرة والمقصودة والمحدّدة.
يقول أرسطو ”العقل الضيّق يقود دائماً إلى التعصّب“.
في محادثة قصيرة مع الصديق “أوميد إبراهيم” عن النقد واحترام الرأي والرأي الأخر، رأى أن الصحة النفسية أهم من الصحة الجسدية، وأن المرضى النفسيين هم أناس بؤساء، والتصالح مع الذات من أكبر النعم.
في المقارنة، بين ما قاله أرسطو بصفته فيلسوفاً وأوميد بصفته صحفياً، سنصل إلى نتيجة حتمية بين العقل الضيق والتصالح مع الذات، وبالتالي فإن كلاهما قد يساهمان على نحو كبير إلى الانهيار الاجتماعي تدريجياً، بدء من الفوضى ووصولاً إلى حياة كارثية كلها بؤس وشقاء.
فمخاتير البثّ المباشر يريدون أن يحرّروا النفس البشرية من الحقد والتعصّب والعنف، وهذا حقّ شرعيّ.
يريدون أن يُجدّوا بحواراتهم وآرائهم على ازدهار المجتمع الكوردي، وخلاصه من عقود التخلّف والجهل والعبودية، وهذا حقّ ويجب تنفيذه.
يريدون أن ينتقدوا الأحزاب الكوردية وما فعلوه بالقضية الكوردية في غربي كوردستان، وهذا حقّ شرعي ولا بدّ منه.
أن يحرّروا القيادي الكوردي عبد الله أوجلان من معتقله، أو يرشّحوا مسعود بارزاني مجدّداً إلى رئاسة إقليم كوردستان، وهذا حقّ ولهم الحرية في مطالبته وطرحه.
أما أن يحرّروا كوردستان من خلال البثّ المباشر – وهم المترفّهون في أوروبا – فهذا خطّ أحمر، ويجب الوقوف عليه كثيراً، فمَن يريد تحرير كوردستان عليه أن يرفع القلم أو الرصاص وعلى أرضه وبكامل المسؤولية والالتزام، أو أن يعمل في التواصل الجدّي مع مراكز صنع وتنفيذ القرار في أوروبا وخاصة الدول التي تدير أزمات الشرق الأوسط، ويحتجّ بشكل فعلي صادق ومتواصل ضدّ قراراتهم وممارساتهم.
حتى لا يبقى المقال تهجّماً مباشراً، أو يفسّره البعض على أنه قذف وتشهير بروّاد البثّ المباشر، والبعض الآخر على أنه تخوين ومسّ بالكرامات، فأنا أحمّلهم المسؤولية الكاملة في الفوضى التي يتعايشها الكورد عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لأن روّاد البثّ المباشر لم يدركوا أهمية هذه الأداة، ولم يكونوا على قدر المسؤولية، من حيث طريقة استخدامها، والاستفادة المتبادلة والمتفاعلة للموضوع الذي يتحاورون حوله، وأطلب منهم أن يسألوا أنفسهم:
هل يستطيعون التفريق بين المقال والتقرير والتصريح والصورة والتعليق في الإعلام؟
هل حاولوا يوماً تحليل بيانات الأحزاب الكوردية، ونقدها بأسلوب حضاري، ومحاولة فهمها، وتقديم ما يجب تقديمه؟
لم التخوين والحقد يعشعشان في صدورنا وعقولنا؟
هل خصّصوا وقتاً محدّداً أو برنامجاً أسبوعياً أو يومياً ليشاهدوا الأخبار أو البرامج أو التصريحات أو اللقاءات السياسية والثقافية والاجتماعية على القنوات الكوردية أو العربية أو الأجنبية؟
أحاولوا – ولو لمرّة – احترام القيادات الكوردية، سواء من المجلس الوطني الكوردي أو حركة المجتمع الديمقراطي – رغم أخطائهم التي لا تُغتفر – وتقديم ما أمكن من المساعدة للطرفين؟
وفي اتجاه آخر. أليس نحن مَن جعلنا الأحزاب الكوردية تركب رأسها؟
ماذا قدّموا للناس والمجتمع؟ أيّهما أقوى الشرّ أم الخير، المعرفة أم الجهل؟
إلى أيّ مدى هم يحترمون الحياة النضالية لمسعود بارزاني أو عبد الله أوجلان؟
هل منح أحد منهم – ولو مؤقتاً – بيته في القرية أو المدينة – وهم اللاجئون في أوروبا – لعائلة نازحة من عفرين، وقام بنشر ذلك كخبر على الفيس بوك، ليكون درساً وطريقاً للجميع، ويعمل كلّ مَن باستطاعته تجاه أهالي عفرين؟
لماذا نقرأ الرأي والنقد البنّاء على أنه إهانة وشتيمة شخصية، في حين نقرأ التشهير بأعراض الناس وتخوين المناضلين والمثقفين واتهام الشخصيات الرسمية والبارزة مجتمعياً ودولياً بالعمالة على أنه رأي أو نقد أو حرية تعبير؟
إن النسبة التي أفادت القضية الكوردية والثورة السورية سياسياً واجتماعياً عبر اجتماعات البثّ المباشر، التي باتت تشبه اجتماعات أهالي القرى في مضافات المخاتير هي (5%) فقط، ولا أريد قذف المثقفين الذين يحاولون إيصال هموم الشارع الكوردي إلى المعنيين – أفراداً وجماعات – ولكن (80%) من روّاد البثّ المباشر على الفيس بوك إما استعراضيون، وإما متسلّقون، وإما متخلّفون، فهنالك أشخاص يخرجون إلى البث المباشر متناقضون مع الواقع وواقعهم، وهنالك صحفيون وإعلاميون مرتزقه يجمّلون الواقع بالتزييف والتزلف وهز الذنب، ليحصلوا على منافع شخصية، منها مادية ومنها تحفيزية.
خلاصة القول:
تبقى كلّ شبكات التواصل الاجتماعي مجرّد وسائل، وسائل تساعدنا في تحسين حياتنا لا تدميرها، وتحسين حياة الآخرين لا زرع الفوضى والحقد والتخوين الدائم فيها، أو بمعنى آخر، تساعدنا على العمل السليم والهادف، الذي هو أحد الأهداف الرئيسية لوجودنا في هذه الدنيا، لذلك فالتركيز الأهم هو على الغاية التي سوف تستخدم فيها هذه الأداة أو غيرها من الأدوات، المحتوى الذي سوف يتم نشره عبر البثّ المباشر أو عبر غيره من الوسائل، وهذا هو المهم، لا أن نعمل عليها بشكل عشوائي فوضوي غير منظّم وغير هادف، فهل يعمل الفاعل بطريقة صحية ليعيش المتفاعل حياة سليمة؟