د. محمود عباس
لئلا نصاب بخيبة أمل، لا بد من التذكير مسبقاً، أنه لم يتم ورود أسم الكرد في المباحثات، ولم يتداول الرئيسين ( دونالد ترمب) و (فلاديمير بوتين) القضية الكردية بشكل مباشر، ليس لأننا لا نملك قوة عسكرية معترفة بها دوليا، أو ليس لنا دولة رغم الجغرافية الكردستانية الواسعة والديمغرافية الضخمة المتواجدة في ذهنية الجميع من العدو إلى القوى العظمى، بل لأننا ورغم مجريات الأحداث المهمة في المنطقة والعالم، والاهتمام الدولي بنا كشعب وكقضية، لم نتمكن من التحرر من إملاءات القوى الإقليمية، واستمرينا على بساطتنا بل ولربما لجهالتنا السياسية، في خلق كل أنواع الحجج والمبررات لتوسيع الخلافات بين أطراف حراكنا، وسهلنا لأعدائنا وللقوى الدولية استخدامنا كأدوات، عسكرية وسياسية، ورغم ما كسبناه بمساعدة تلك القوى أو على خلفية ما تتطلبه مصالحهم، لم نعرف كيف نحصل على استقلالية الرأي لتشكيل تجمع سياسي، حتى ولو كنا على خلاف، ونصبح على سوية التعامل مع القوى، الإقليمية أو الدولية، وبالسوية المطلوبة أو المعادلة لمكانة ديمغرافيتنا وجغرافيتنا، ولكنا معادلة صعبة على طاولة المباحثات بين ترمب وبوتين في هلسنكي وغيرها.
ولكن مع ذلك هناك ما يمكن الاستشفاف مما جرى بينهما، تخص أو تمس قضيتنا الكردية في جنوب غربي كردستان، على خلفية ما تم الاتفاق أو بدأوا الحوار عليه بشكل مبدئي حول مستقبل سوريا، ولم يتم الإعلان عنه إلا بشكل مقتضب ولعدة أسباب واعتبارات:
فقمة هلسنكي (والتي تغيرت فيها المسارات، وهمشت بعض بنودها، وركزت بشكل أكثر من المتوقع على قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لعام 2016م أي عمليا مصداقية رئاسة ترمب ومصيره ونزاهة الانتخابات والتي أدت إلى خلافات واسعة ضمن الحزب الجمهوري ذاته وبين أقطابه) كانت بداية حوارات ستتم بين روسيا وأمريكا على قضايا عديدة ومنها:
القضية السورية ومستقبلها.
وشكل الإدارة في شرقي الفرات ويقال إنها أجلت إلى مرحلة ما بعد الانتهاء من المناطق التي لا تزال فيها بقايا من المعارضة أو المنظمات الإرهابية، كدرعا وإدلب.
والبقاء الأمريكي أو خروجها من سوريا بشكل عام وبأية شروط، وكيف ستكون شكل الحكومة السورية المستقبلية.
وهنا وفي رؤية الطرفين ورغم عدم التطرق إلى القضية الكردية في سوريا، لكنها حاضرة لديهما في كل مرة يتم البحث في القضية السورية وإشكالياتها، ولكل منهم رؤيته حول المستقبل الكردي وشكل الإدارة في منطقتهم، ومن ضمنها مصير منطقة عفرين، وهي مع منطقة الباب وجرابلس وإدلب من أحد الإشكاليات الأكثر إثارة وحساسية بالنسبة لروسيا بشكل خاص، فهي ستضع علاقاتها مع تركيا على المحك، بوجود المنظمات المدرجة على قائمة الإرهاب عند الروس، باستثناء القوى الكردية المتفقة مع المعارضة وتركيا، وهذا الحضور المتناقض للتكفيريين في مناطق سيطرة تركيا هي ما تجدها أمريكا ورقة رابحة، يقوم بتفعيلها وإدراجها ضمن مخططات الإيقاع بينهما (روسيا وتركيا) مثلما تقوم روسيا بتسخير ورقة الصراع الإسرائيلي-الإيراني في سوريا للضغط على أمريكا.
ولا يستبعد أن أمريكا تخلت عن منطقة عفرين منذ البداية لهذه الغاية وبحجة أنها ليست ضمن مناطق نفوذها، وعلى الأغلب وكما بدأت تظهر مع الأيام أن الاستراتيجيين الأمريكيين كانوا في الواقع يمهدون لسقوط عفرين، خاصة بعد أن انقطعت عنها سبل بلوغ البحر الأبيض المتوسط بعد دخول تركيا وبرفقة المعارضة الباب وجرابلس وإدلب وباتفاقيات وهمية بين روسيا وإيران وتركيا في مؤتمرات أستانا. فالمعارضة المحمية من قبل تركيا، هي أحد أهم العوامل المرجحة لاحتماليات حصول خلاف بين الدولة التركية وبين السلطة السورية المسنودة روسيا، فيما إذا لم تكن تركيا في الواقع مشتركة مع روسيا والسلطة، ولمصلحتها القومية، في مخططات القضاء على فلول المعارضة السورية العسكرية المجمعة وبموافقتها وتحت حمايتها في منطقتي عفرين وإدلب، وإلا فكيف تفهم معادلة التوازن الروسي بين المنظمات المسلحة السورية والمدرجة على قائمة الإرهاب عندهم في المناطق المذكورة وبين تركيا المدعية أنها هي الحامية والراعية والداعمة لهم!؟
بدأت تنفضح هذه المعادلة السياسية العفنة، يوما بعد أخر وستظهر بشكل جلي خيانة أردوغان للمعارضة السورية ولمصلحته القومية، وأول مؤشراتها تبينت من خلال ظهور بوادر مخطط الهجوم على إدلب في الأفق من خلال تهديدات سلطة بشار الأسد لأصحاب الخوذ البيضاء، وهو في عمقه تحريض روسي، موجه لتركيا بشكل غير مباشر، كتحذير روتيني في حال التفكير بالعودة إلى الماضي، لأن المتوقع أن أمريكا بعد التخلص من داعش قد تتخلى عن الكرد وتعود إلى احتضان تركيا، رغم أن هذه الاحتمالية أصبحت شبه بعيدة في ظل حكومة العدالة والتنمية، لكن بوتين وكتلميذ للمدرسة الشيوعية القديمة لا يترك مجال لاحتمالات الخطأ، خاصة وهو يلاحظ أن أردوغان وكدبلوماسية ناجحة لم يقطع علاقاته مع أوروبا والناتو وأمريكا، ولهذا لا يزال يصر على إتمام صفقة الطائرات الـ ف 35 الأمريكية، إلى جانب عقده مع روسيا حول شبكة الصواريخ س 400 كرباط بينه وبين بوتين أكثر من أن تكون تقوية لقواته العسكرية.
يحلل البعض من المراقبين السياسيين، وعلى الأغلب يستندون إلى معلومات مسربة، أنه تم التباحث بين مستشاري الرئيسين، حول مصير المعارضة الموجودة في إدلب وعفرين والباب قبل الحضور التركي في سوريا، ولهذا سيبحث بشكل مركز على قضية بقائها العسكري هناك، ضمن مؤتمر أستانا القادم، وكذلك في سوتشي، وعلى الأغلب روسيا ستمهل تركيا من الخروج لفترة ما حتى عند البحث في وحدة سوريا وبعد الانتهاء من منطقة درعا كرد استباقي للمحاولات الأمريكية بإعادة تركيا إلى ما كانت عليه سابقاً، وربما للتخلي عن الكرد بعد الانتهاء من داعش، أي بما معناه الخروج من شرق الفرات، ولا شك أن أردوغان يدرك هذه المعادلة، ويعلم من جهة أخرى أن سيادته تحت غطاء المعارضة على إدلب وبعدها عفرين بلغت مرحلة نهايات الصمت عليه، وبقاء هذه المناطق تحت سيادة المعارضة المنبوذة أمريكيا وروسيا لم تكن بأكثر من خداع للمجتمع السوري، وسيتم تصفية معظم هذه القضايا لتصبح الحوارات أكثر أهمية بين روسيا وأمريكا في القمم القادمة اللاحقة لقمة هلسنكي.
وهنا عفرين، والتي أصبحت قربانا لعلاقات الدولتين الكبريين في سوريا، واستغلتها تركيا بحنكة من حيث المنظور القريب، وخسر أهلنا في المنطقة على أثرها وعلى خلفية عنجهية الإدارة الذاتية الكثير، أو ربما لسذاجتهم التي عرف أردوغان كيف يستغلها دوليا، أو لكونهم كانوا ولايزالون قوة لا حول لها أمام القوى المتحكمة بمصيرها في المنطقة. ورغم كل مجريات الأحداث فعفرين إما أنها ستعود كمنطقة ذات إدارة كردية متممة لمنطقة الجزيرة أو قائمة بذاتها تحت سيادة السلطة حسب ما سيتم الاتفاق عليه لاحقا، مركزية أو لا مركزية، وهذه الأخيرة هي الأرجح، رغم أنها في ظل الأنظمة الشمولية وبقاء سلطة بشار الأسد لا اعتبار لها، فمثل هذه المصطلحات كالدساتير لا قيمة لها ولا وزن، إلا في حال تطبيق النظام المرجح تشكيله في السابق، والذي لم يدرج حتى اللحظة بين الروس والأمريكيين والمرفوض من جميع الأطراف السورية العربية والقوى الإقليمية، فيدرالية أو إدارة ذاتية على نمط النظام الأوروبي أو الأمريكي، أو على الطريقة الروسية، وهي ما تدعي السلطة بأنها كانت موجودة في السابق تحت اسم الإدارات المرحلية.
ومن مفرزات قمة هلسنكي غير المباشرة، والمرتبطة بالقضية الكردية، هي الحوارات الجارية بين السلطة السورية والإدارة الذاتية، والمرجحة أنها كانت على مستوى المربعات الأمنية، القائمة عليها نظام بشار الأسد، ولم تكن بين أطراف سياسية، أو كما يقال بينها وبين مجلس سوريا الديمقراطي في شرق الفرات، والتي سبقت توقيتها، والمتوقع حصولها بعد الانتهاء من منطقة إدلب، ولكن ولإشكالية الوجود التركي في المنطقة الكردية وإدلب وتقبل روسيا لها لإفشال التكتيك الأمريكي من جهة واستخدامها كورقة ضغط على وجودها في شرق الفرات رغم إنها تجري بموافقتها كما هو متفق بينها وبين روسيا، لكن الأخيرة أسرعت وبشكل علني البدء بها، علما أنها لن تأتي بشيء جديد، فما ستمليه السلطة على الوفد المطلوب حضوره إلى دمشق، هي إملاءات روسيه وسيتم تطبيقه بدون نقاش ولكن ليس الأن، وروسيا ستمهل إلى أن يتم كتابة الدستور، وما يقال أو سيقال عن أية اتفاقية بين السلطة والإدارة الذاتية ليست بأكثر من دعاية إعلامية لغايات خارج مستقبل المنطقة الكردية والتي يتواجد فيها الأمريكيين والسلطة جنبا إلى جنب، ومنها لتبين روسيا للعالم أن جميع مناطق سوريا عادت إلى حضن سلطة بشار الأسد وأصبح يملك الشرعية التامة في كل ما سيصدره من عقود أو اتفاقيات دولية.
والقمم القادمة بين بوتين وترمب ستكون أكثر وضوحا حول مستقبل المنطقة، وفترة بقاء الأمريكيين في شرق الفرات، وهل سيتم تطبيق النظام الفيدرالي، أم سلطة مركزية أو لا مركزية كما تمهد لها روسيا حتى مع بقاء الأمريكيين، بحقوق ثقافية وإدارية كأقلية حراكها شتت بكل دهاء، وشعبه منقسم على ذاته، وليس كشعب قادر على إدارة منطقة فيدرالية بنظام ديمقراطي حضاري، كما توقع العالم منا في بدايات صعودنا.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
29-7-2018م