د. محمود عباس
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التكرار والتناقضات:
28 في الصفحات (699-701-702) وفي الهامش (78)، يكرر محاولاته في إثارة الأحقاد بين العائلات الكردية تحت غطاء البحث في تاريخ كرد الجزيرة، وهنا يحصر الخلاف الذي جرى في البرلمان السوري حول إشكاليات التسجيل والدوائر المدنية للشعب الكردي في الجزيرة بعد استقرار سوريا كدولة ذات سيادة في بداية الخمسينات، بين النائبين الكرديين (محمد إسماعيل إبراهيم باشا الملي) و (علي بوظو) في عام 1957م على خلفية حملة دفاع الأول عن العشائر الكردية في جنوب غربي كردستان، الذين حاولوا التسجيل للحصول على الهوية السورية، ومن ضمنهم الملية المكتومين، ومطالبة الحكومة بتسجيلهم، فالمنطقة بين طرفي الحدود كانت جغرافية واحدة تخص العشيرة الملية وغيرها من العشائر الكردية إلى أن تم الفصل بينهم، وتشغيل أل الباشا لأبناء عشيرته من طرفي الحدود في أراضي العشيرة كان امتداد للعرف العشائري قبل التقسيم، ولم يكن خروجا عن القانون، وسيقت كخرق عند سلطات الدولة السورية بعد محاولات القضاء على كردستانية الجزيرة ووحدتها.
واعتراض النائب الكردي الأخر علي بوظو، المستعرب أو المتعرب حسب قول الكاتب، من حزب الشعب، على مراكز التسجيل، والعشائر المتنقلة بين طرفي الحدود واصفا إياهم بالمتسللين، ربما كان مبنيا على مفاهيم تكوين سوريا الحديثة وحمايتها من الطموح التركي، الدولة التي لم تكن لها اعتبار لدى العشائر الكردية إلى حينه، وعليه ظلت نسبة عالية من الكرد مكتومين إلى نهاية الخمسينات، ونحن لا نتحدث ما تم القيام به سلطة البعث في بداية الستينات بسحب الجنسية من الكرد، ومحاولات إفراغ كردستان من ديمغرافيتها الأصلية بتهجيرهم، وإحلال العربية مكانهم.
يعتمد الكاتب على أرشيف الحكومات السورية العروبية، ويركز عليها كوثائق للطعن في الديمغرافية الكردية في الجزيرة مستشهدا بالخلاف الجاري بين نائبين كرديين، في الوقت الذي يغطي فيه على حملات السلطة والنواب العروبيين من حزبي الشعب والبعث ضد الحراك العفوي للعشائر الكردية المعارض لعملية التقسيم الجاري لجغرافيتهم وعائلاتهم، والاستشهاد ببعض النواب العرب ومداخلاتهم جاء للطعن في ملكية الكرد لأراضيهم، وليس لمصداقية في عرض تاريخ المنطقة وحقيقة ما كان يجري في قاعة البرلمان ومؤامرات العروبيين فيها، كتأويله الوارد في الصفحة (702) حول تأييد النواب البعثيين للسيد علي بوظو في مرافعته، قائلا “” وتلقف النواب البعثيون ذلك، فرفعوا وتيرة التحذير من هذه الهجرة، ومن سيطرة ” الأجانب” على أراضي الجزيرة، وقدّر النائب البعثي عبدالكريم زهور عدي أن ” الأجانب” ويراد بهم بدرجة أساسية الأكراد المهاجرون من تركيا، تملكوا ” حتى الأن ما يقارب النصف مليون دونم في الجزيرة”” ولا شك هنا الكاتب يغير المواقع، فعلى الأغلب، ليس النواب البعثيون من تأثروا ببوظو بقدر ما تأثر هو بهم وبمؤامراتهم حول كردستان والديمغرافية الكردية المراد ترحيل العشائر إلى تركيا، والكاتب بحد ذاته سقط تحت تخدير تلك المفاهيم، وعليه يحكم ويصف الكرد بالمهاجرين. ولا نستبعد، ومن جهة أخرى، أن تكون غاية الكاتب من عرض هذا الخلاف، الطعن في الانتماء الكردي لقضية شعبه، من خلال موقف السيد بوظو والتغاضي عن الموقف الوطني للسيد محمد إسماعيل إبراهيم باشا الملي.
هذا هو النهج الحديث، أو بالأحرى الأسلوب الذي أصبح يتبعه بعض الكتاب والمثقفين العروبيين، للطعن في العائلات والشخصيات الكردية الوطنية والتاريخ الكردي وديمغرافيته في الجزيرة، وعلى أثرها أصبحت مصداقية العديد منهم ومن ضمنهم الكاتب محور جدال، مطعونة فيها، خاصة وأن معظم تحليلاتهم لمجريات التاريخ منحازة بشكل جلي، وحضور التأويل في هذه الحادثة، بعيدة عن المنطق، ونقد الكاتب لمجريات الخلاف غير موضوعي، أو في الوجه الأوسع محاولة للطعن في الهوية الكردية والتاريخ الكردستاني للجزيرة، من خلال المثقف الكردي ذاته، وهي جدلية مرفوضة حكما، لأن السيد بوظو كان أولاً، نزيها لمبادئ حزبه العروبي، أبتعد على خلفيتها ولأسباب ذاتية عن قوميته الكردية، ولا يحسب على الكرد، وهي من الأسباب التي تخلت عنه أغلبية كرد حارة الأكراد حينها وبينهم البعض من عائلة بوظو الغنية عن التعريف، الذين كانوا ولا زالوا يفتخرون بكرديتهم، وعلى الأغلب يكون قد حرض من قبل الحزب ليغطي بموقفه ذاك على أفعال الشريحة الواسعة من العنصريين العروبيين الذين كانوا وراء إقصاء الكرد من التسجيل في السجلات المدنية، ومؤامرات المربعات الأمنية وتحريضاتهم للنواب العرب. والثاني، أن النائب علي بوظو بين عن وطنيته، ففي الواقع كان في مداخلته واعتراضه مركزا بشكل واضح على الواقع المزري لمراكز التسجيل، ففي الهامش (72) يقول الكاتب أنه في جلسة البرلمان لعام 1975م في 27 من أيلول ” وصف علي بوظو دوائر الأحوال المدنية في سورية بـ ” الازدحام المنقطع النظير، والمئات من الناس يحاولون أن يأخذوا هوياتهم، ولا يستطيعون لأن السبل أمامهم متعثرة”” وحتى لو افترضنا جدلا أن البرلماني الكردي أنطلق من البعد الوطني السوري والصراع على الحدود ما بين تركيا وسوريا والذي كان وبشكل ما لا يزال جاريا حينها، لكن يتبين من مداخلة بوظو الأخيرة أنه، رغم استعرابه، لم يكن ينفي الوجود الكردي وتاريخهم في الجزيرة.
وفي بعد أخر غاية محمد جمال باروت من التركيز على هذا الخلاف دون غيرها من الحوارات الجارية في البرلمان حول قضية تسجيل الكرد، والتشهير بالأعضاء البرلمانيون من الكرد، محاولة غير مباشرة لإثارة الفتن بين أبناء العائلات الكردية، علما أن أعضاء من حزب البعث والشعب كانوا في حراك دائم ضدهم ولا يأتي على ذكرهم إلا بشكل عرضي. والغاية هي ذاتها التي من أجلها بحث في تاريخ هفيركان ودكشوري، وطعن في وطنية بعض العشائر ومجد في الأخرين، وركز على عائلة كردية دون أخرى في الجزيرة وعتم على شريحة المثقفين وعلى دور الشعب، مستخدما أسلوب السلطة والمربعات الأمنية في خلق الخلافات بين الأحزاب الكردية في جنوب غربي كردستان، ولم يتوقف الكاتب في كتابه وفي هذا المجال على قضية هفيركان ودكشوري، بل استمر إلى حد الطعن في المثقفين أو السياسيين الكرد في جميع المراحل، منذ تكوين سوريا وحتى الأن، وقضية البرلمانيين واحدة من عدة أمثلة نقب فيهم وعرضهم بسلاسة تاريخية مناسبة، لكن في الوجه الملائم لهدفه، وفي جميع الحالات لا يتطرق إلى العوامل الموضوعية المحاطة بمعظم هذه الحوادث، ولم يكلف ذاته في تبيان دور السلطات العروبية السورية في هذه القضايا، علما أنه المثقف والمقدم ذاته كباحث الذي ولا شك لا تمر عليه جدلية قدرات الأنظمة في العالم، من تحريف للتاريخ، وفبركة الحوادث، وخلق الخلافات بين القوى الوطنية، ورفع مكانة الانتهازي أو المنافق وإذلال الوطني والنزيه، حسب ما تتطلبه مصالحها دون أي رادع أخلاقي، والسلطات السورية والدولة الراعية له الأن قطر وتركيا خير مثال.
وفي مثالنا هذا، فمثلما ركز الكاتب في عدة قضايا تاريخية على مصادر السرد الشفهي ومن ألسنة البسطاء من الكرد، أو من مصادر غير مسنودة بحد ذاتها، أو مطعونة في مصداقيتها، كعرضه لتاريخ العشائر الكردية، كذلك هنا وفي هذه الحادثة يستند على إعلام السلطات العروبية حتى تلك المختفية تحت عباءة الوطنية، وجرائدهم، ومنشوراتهم الرسمية والتي كانت معظمها أن لم تكن جميعها تمر من تحت أيدي مربعاتهم الأمنية. وجل هدفه هنا وهناك وفي هذا المجال، كما ذكرناها سابقا، هي إيقاظ الخلافات السياسية أو الاجتماعية الماضية بين العشائر والعائلات الكردية، وجر أحفادهم إلى التشهير ببعضهم أو ربما إلى صراعات عائلية أو على الأقل محاولة الطعن في ماضي الأجداد، وتبرئة السلطات العروبية ودور مربعاتهم الأمنية والحركة الثقافية العروبية والتي كانت ولا تزال ليست بأكثر من خدم للبلاط، ودورهم المخزي فيما كان يحدث بين الكرد وحركتهم لاحقا من الخلافات …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016