البحث عن إنسان يبحث عنك.. «الكاتب والصحافي الكردي: فرهاد عوني نموذجاً»

 ابراهيم محمود
الصحافة مهنة المتاعب ! يا لها من عبارة مضلّلة، إذ كيف يمكن التعريف بعمل فعلي دون إرفاقه بنوعية تعب معينة. وأن تكون تلك مهنة المتاعب، من خلال أداءاتها، فكونها لاحدودية، إنها لا تنفكُّ تطرح أسئلتها الصغيرة والكبيرة على ما ومن حولها. لتكون مهمَّة من يريد أن يفعّل في ذاته ما هو إنساني بالمعنى الدقيق للكلمة، والذين برزوا في ميدان الصحافة كانوا يعيشون هذه المتاعب جملةً ودونها لا حضور لهم، وبحسب الشخص ونسَبه والقضايا التي يطرحها. هنا أتوقف عند الكاتب والصحافي الكردي المخضرم: فرهاد عوني، لأثير من خلاله بعض النقاط ذات الصلة بالثقافة عموماً، وهذه ” الـ” مهنة المتاعب، والشخصية الاعتبارية المتشكّلة في المحصّلة خصوصاً، اعتماداً على أمثلة تضيء ساحته، وهو في مكان إقامته: أربيل .
لقد التقيتُه في مكتبه الفخم الضخم في أربيل. كان ذلك عن طريق الصديق والدكتور عبدالفتاح بوتاني رئيس الأكاديمية الكردية في أربيل عاصمة إقليم كردستان والمسئول  الإداري لمركز ” بشكجي ” للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، الأستاذ: خالد توفيق، وذلك يوم الأحد مساء بتاريخ ” 9-4/ 2018 “، حيث ألقيت محاضرة في الأكاديمية في اليوم التالي .
ربما كانت النظرة الأولى أول احتكاك بالعالم، وأول تأشيرة دخول إليه وتركيب معلومات، وهكذا كان الوضع لحظة رؤيتي للمساحة الواسعة من مكتبه القلعوي، إن جاز التعبير، فثمة جدار عال للفِناء الخارجي، وكتوم، ويوحي بسرٍّ خلفه، إنما هو سر الأمن المطلوب، وما يغيّر في بنية هذا الجدار العالي والخرساني هو تلبُّسه بالأخضر، أي الأخضر الذي يتسلقه ويخفّف من وحشة الرؤية، كما أن قسوة الخرسانة تخفَّف، وتزيَّن بالأخضر وانسحابه إلى الداخل .
الباب الكبير يوحي بمثل هذا الحضور المهيوب، باب متين، ويعطي انطباعاً بأن فتحه لا يتم بسهوله، أو ليس سهلاً فتحه من قبل أي كان، فثمة ما يكشف المكان في الجوار.
ذلك من دواعي الحيطة والحذر، دواعي شتى، ربما تضفي علامة مميّزة على المقيم في المكان، من جهة موقعه/ منصبه، والدفع به صوب المراكز الحساسة في الدولة، وهو بعد آخر من أبعاد المألوف اليومي في طول الإقليم وعرضه، إنما هو مقتضى الأمن مرة أخرى، وإن كان في ذلك ما يجعل الأمور تختلط ببعضها بعضاً، سوى أن من رأيناه وعرفناه بالصوت والصورة خارج هذه التأطيرات، فمن يعيش مهنة المتاعب، ويُسمّي جهاتها، لا بد أن يحصّن نفسه من آفاتها !
كانت الساعة متجاوزة التاسعة مساء، عندما ترجلنا من سيارة الدكتور، ودق جرس الباب، وما هي إلا لحظات، حتى انفتح الباب ليضاء الداخل والخارج، وأطل الأستاذ عوني الذي تعرفت عليه سابقاً من خلال صورته في أكثر من منبر ثقافي، ومن خلال كتبه، منذ بداية مجيئي إلى الإقليم بفضل الدكتور بوتاني: بدا مربوع القامة، محيّا الوجه، متماسك الخطى في وقفته كأن ليس من أثر نافذ لعمره السبعيني ونيّفه، إلى جانب مكابدات العمر وارتباطها بالمكون الجسدي وعنفوانيته ، وهو يستقبلنا بابتسامة مدروسة من جهة الصحافي المتمرس في علاقاته.
دخلنا فناء المكتب، امتدت جداريات شجرية، وبساط أخضر مشذّب في المنتصف، وواجهة مزخرفة. بمعنى أن ليس من بوصة في المكان بدءاً من الأرضية إلى أعلى المبنى إلا وهي معتنىً بها، ليس لوجود ترف في المال، وإنما، كما هو انطباعي الأول، ليقين جمالي بأن المرئي خارجاً ليس مجرد ديكور، إنما وجه من وجوه الداخل، وهذا ما تحقق ونحن دخول في المكتب.
من الصعب علي، وبي داء التركيز على الكتب: مواضعها، كيفية ترتيبها، عناوينها، طرق الإخراج لها، الصلات فيما بينها في الرف الواحد، أو تبعاً للموقع في الغرفة أو المكتب أو الممر نفسه، إذ إن العلامة الفارقة لصفة ” المكتبة ” تجلَّت بارزة من الخطوة الأولى إلى الداخل، وضمن أرفف معتنىً بها هي الأخرى وثمة واجهة بلورية تشهد على مكانة الكتاب، لتكون المكتبة اللامكتبة، لأنها شخصية، وليست للعرض، أو للبيع، إنما الكساء الداخلي في مجمله، ومن خلال مجموعة غرف، احتلت مساحة لافتة ومهندسة بإتقان، كان ناطقاً بعمق المودع داخلاً إي كساء الكتب وهي بتنوع أحجامها وتداخل ألوانها واختلاف ألسنتها، وتترجم بالتالي بعداً حيوياً من أبعاد مالك المكان، أعني به الكاتب والصحافي المخضرم: فرهاد عوني.
ممر بدا بالنسبة إلي من خلال الكتب الممتدة و واللوحات والأجسام المنحوتة وغيرها، وكأنه يؤخّر تقدمي إلى الأمام، تعبيراً عن تعلّق مقدَّر، لأجدني تالياً في فسحة مكانية هي الصالون أو ما يشبه وهو ينفتح على ممرين: صوب الباب الخارجي وصوب عمق البيت: المكتبة ! 
الطاولة المنصوبة واللافتة بحجمها وجودتها، توحي بالذوق الأرستقراطي من حيث الرؤية الأولى، ولكنها تتجاوب مع موجودات المكان: المكان المكتظ بمغذيات الثقافة: الجهاز الموسيقي القديم ذو اللاقط، لوحات فنية، منحوتات، قطَع أثرية، فولكلوريات، وثمة اللابتوب، وجرائد وكتب، حيث يصعب إيجاد فراغ إلا لضرورة تناسقية، إنما من خلال صاحبه، قراءة مسموعة وملوَّنة لذات كاتب وصحافي، يمتلك خبرة لا تخطئها العين بمفهوم المكان وجمالياته.
من الأرضية إلى السقف، من الأنوار القريبة من الأرضية إلى تلك المتوارية وراء ديكورات سقفية، وتمازجات الألوان الخارجة من فصوص أجسامها تحفّز المأخوذ بمقام كهذا إلى أن ينفتح بكامل قواه على هذا المعروض، المنصوب، المرئي، ولعلي حين أعلمت الأستاذ عوني بأنني مقّل وأقل من المقل في الكلام في وضع كهذا، إذ حاولت أرشفة المرئي بعيني، ولو بإيجاز، ولم أدخر جهداً في تقديم المدد لعيني لكي ” تهضما ” المكان قدر استطاعتهما. فقدَّر موقفي، كما أبان له الدكتور بوتاني بالمقابل، وكان العصير البارد يطرّي المناخ وينعش الروح معاً .
تفصح الكتب من خلال عناوينها، وهي تتضمن عناوين شتى، وللسياسي والتاريخي سهم وافر من بينها، تأكيداً لموقعه الصحافي، حيث يمكن للجالس في كرسيه أن يقرأ الكثير من العناوين التي تتقافز على شاشة العين، كشريط سينمائي يعنيه هو وعلى طريقته.
هذا التعمق في بنية المكتبة برز أكثر من خلال مضيّنا إلى غرفة تنفتح على الصالون تقريباً، وهي تتضمن هي الأخرى طاولة فسيحة، وفي الجهات الأربع كتب وصور شخصية ولا بد أن هذه تحتفظ بميزتها التأريخية والتوثيقية من قبل رجل أمضى عقود مديدة وغنية من الأنشطة في أكثر بلد أو دولة في المنطقة وخارجها.
وتعاظمَ هذا الاعتبار ونحن ندخل إلى غرفة أخرى، وفي الوسط ما يشبه المنصة وكرة أرضية، حيث تحتل مجلات وجرائد مرتبة في الجهات الأربع، وهكذا حال الغرفة المجاورة.
تسند، ومجلات تسند بعضها بعضاً، تتطلب أياماً وأياماً للتمكن من تثبيت عناوينها بدقة.
لكم كانت عيني عطشى، وفي روحي ظمأ مرافق لالتقاط ظلال من هذا المكان الوثير.
وأنا أمعن النظر في العناوين وما هو ملصق أو معلق على الجدران، كنت أشعر بقلبي يزداد خفقاناً تعبيراً عن فضول معرفي لا يحاط به مجرد إحاطة بصرية بيسر، وكانت صورة الأستاذ فرهاد عوني الشخصية هي الأخرى تكتسب أكثر من ثلاثة أبعاد، شخصية تمتلىء بالحياة، رغم ضروب المحن التي عاشها وهو الكردي المعنى بوطنه المأمول وأوجاع شعبه وما أكثرها .
أردتها صوراً تبقي بعضاً مما عاينت، وتؤبّد للحظة رحبة عشتها في مكتبته: مكتبة كونية ما !
يتبع..
مع الأستاذ فرهاد عوني في غرفة داخلية من مكتبه
مع الأستاذ فرهاد عوني في غرفة داخلية من مكتبه والدكتور عبدالفتاح بوتاني في الوسط
في إحدى غرف مكتبة الأستاذ فرهاد عوني الداخلية
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…