أكرم حسين
لم تتوقف محاولات الكرد يوماً من اجل انشاء كيان قومي خاص بهم كشعب له الحق بتقرير مصيره ، بدءاً من محاولة الشيخ محمود الحفيد تنصيب نفسه ملكاً على كردستان في اوائل العشرينات من القرن الماضي -التي وأدت من قبل بريطانيا – مرورا بثورة الشيخ سعيد 1925 واحسان نوري باشا 1930 وانتفاضة ديرسم 1937 وانتفاضات بارزان وما تلاها من ثورات قادها الملا مصطفى البارزاني وصولا الى جمهورية مهاباد 1946 التي دامت احد عشر شهرا بقيادة القاضي محمد والذي اعدم في ساحة جارجرا على يد الحكومة الايرانية بعد انسحاب الجيش السوفياتي آنذاك بضغط بريطاني-امريكي- اممي وثورة ايلول 1961 وكولان ومحاولات حزب العمال الكردستاني 1984 وانتهاء بانتفاضة اذار 2004 في كردستان سوريا.
وفي الامس القريب فتح سقوط صدام 2003 في العراق والثورة السورية 2011 ابوابا جديدة للكرد في الدولتين وعزز حضورهم المميز في المشهد السياسي عبر مشاركتهم الواسعة في محاربة داعش والارهاب عموما حيث ابلى المقاتلون الكرد بلاء حسنا وصار يشهد لهم العالم كمقاتلين اشداء وحلفاء موثوقين ، وقد ساهم هذا الوضع وخاصة في كردستان العراق الى بروز دورهم وازياد وزنهم بحيث باتو يديرون شؤونهم كدولة شبه مستقلة رغم ارتباطها النظري بالعراق فصارت هولير مقصد كل السياسيين الغربيين والمحليين واخذ يعول على دورها في حل بعض المشاكل الاقليمية وصار قادتها يحضرون المؤتمرات الدولية والعالمية كمنتدى دافوس الاقتصادي ومؤتمر ميونيخ للأمن .
لكن بدا جليا بعد استفتاء الاقليم ومعركة عفرين بان الشعوب العربية والتركية والفارسية هي اكثر شوفينية من حكوماتها وتقف الى جانبها في معاداة تطلعات الشعب الكردي وحقوقه القومية والديمقراطية وهذا الموقف لا يخدم نضال شعوب المنطقة وتاريخها المشترك التي انتجت حضارة عالمية لا بل يزيد من الانقسام والكراهية ويدفع الى قيام حروب تضر بمصالح شعوب المنطقة ككل وتفتح مجالات للتدخلات الاقليمية والدولية للسيطرة ونهب خيراتها واستعباد شعوبها تحت حجج واهية !
لقد اعتقد كرد العراق وسوريا بان هناك فرصة حقيقية متاحة لإنهاء المظلوميات ورفع الغبن والظلم والعيش بسلام ووئام مع شعوب المنطقة وفي اطارها . كما اعتقدوا بان سايكس بيكو وخرائطها اصبحت من الماضي وقد ان الاوان لرسم خرائط جديدة على اساس التوازنات الجديدة واعادة تقاسم مناطق النفوذ بين الدول الكبرى ، وقد ساعد داعش في تعزيز هذا التوجه من خلال اقامة ” دولته” المزعومة والتنقل بحرية بين العراق وسوريا وتركيا وكأن الحدود لم تعد قائمة لأكثر من سنتين او ما يزيد ، الا ان مرحلة ما بعد داعش قد اكدت بما لا يقبل الشك خطأ تلك التصورات وعدم واقعيتها وبان المجتمع الدولي والشعوب الثلاث لا زالت تتمسك بحدود سايكس بيكو وتدافع لتثبيتها ولن يسمح المجتمع الدولي بتغيير الحدود القائمة بل يؤكد عليها في كل القرارات الاممية المتعلقة بسوريا والعراق والمثال الحي اجماع مجلس الامن الدولي على رفض استفتاء كردستان ، وما جرى بعدها من تداعيات مؤلمة .لكن ثمة واقع جديد بدأ يتكون وهو ان التغيير المسموح يجب ان يكون داخل الاوطان القائمة من خلال حقوق بعض المكونات والدساتير التي يجب اعادة صياغتها لتلائم الواقع الذي تعيشه بعيدا عن استبداد الانظمة وقمعها .
وهذا يدفع الكرد للمشاركة في النضالات التي تجري في داخل هذه الاوطان وعلى جبهتين متوازيتين الاولى المشاركة الكثيفة في تغيير الانظمة الاستبدادية والديكتاتورية والعمل مع الشعوب الثلاث للإتيان بحكومات وطنية ديمقراطية تقر بحقوق جميع مكوناتها وتنتصر لمفاهيم الحق والقانون والمواطنة المتساوية والثانية العمل على تغيير ذهنية الشعوب التي يتعايش معها الكرد واحداث نقلة نوعية في فهمهم وموقفهم من الكرد ومن الاقليات الاخرى وهي حاجة ملحة وضرورية لأنه بدون ذلك لا يمكن للكرد ان يتقدموا خطوة واحدة باتجاه تحقيق حلمهم ونيل حقوقهم وكرامتهم وهذا لا يعني بان يتوقف الكرد عن العمل على اقامة كيانهم القومي في أي جزء ما استطاعوا اليه سبيلا.
هذا كله ينبغي ان يترافق مع المسعى على تدويل القضية الكردية والتعريف بها وبعدالتها من خلال مراكز البحث ومراكز الضغط وبالوسائل المباشرة والغير مباشرة لكسب اصدقاء دوليين ذي مصداقية وفاعلية الى جانبهم
هناك مساحة مشتركة بين الكرد وجيرانهم يقف عليها الطرفان ينبغي توسيعها قدر الامكان لان بناء دول وطنية وديمقراطية في هذه الاوطان سيسهل كثيرا حل القضية الكردية وسيكون مدخلا حقيقيا لتحقيق الامن والاستقرار في كردستان والمنطقة .
هناك ملفات ساخنة يمكن العمل عليها بين الشعوب –لم يعمل عليها بالقدر الكافي- وهي الملفات التي تدعم وتقوي السلم الاهلي والمجتمعي فعدم انصاف الكرد وحل قضيتهم سيبقي ميزان القوى مختلاً لصالح الشعوب والانظمة المهيمنة والمستبدة ؟
لقد اعادت معركة عفرين ومن قبلها الاستفتاء التأكيد مجدداً على رفض دول المنطقة وخاصة تركيا وايران قيام أي كيان كردي وفي أي جزء ، فقد عملت الدول الثلاث تركيا العراق ايران –وبصمت دولي –على ابطال مفاعيله والقيام بإجراءات سياسية وعسكرية مافيوية ممنهجة لإلغائه ومنع الكرد من الوصول الى تقرير مصيرهم ، من خلال ضم كركوك والمناطق المتنازعة والتي تعادل مساحتها ضعفي مساحة الاقليم الحالية ، فأية دولة كردية لا يمكن ان تقوم دون كركوك لأنها قلب كردستان ورئتها ايضا .
ورغم كل ما حصل من تداعيات بعد الاستفتاء فاني مقتنع تمام الاقتناع بان كردستان باشور هي المرشحة لان تكون الجزء السباق من كيان كردي حتى وان تأخر والامر منوط بالقدرة على الوقوف في وجه بغداد والحفاظ على الوضع القائم وخلق الكيان الموازي لان قيام هذا الكيان في تركيا وايران غير وارد في المدى المنظور بسبب طبيعة انظمتها وشعوبها فأقصى ما يمكن ان يحصل عليه الكرد في هذه الدول هو المواطنة وما تقرره تلك الدول لمواطنيها في احسن الاحوال عبر الدستور.
اما في سوريا فقد تراجع حجم التوقعات بعد التدخل التركي في عفرين ومحاولة عزلها عن المنطقة الكردية باعتبارها المنطقة الاكثر قابلية لقيام حكم ذاتي حقيقي والى ان تظهر نتائج هذا التدخل فان عفرين ستكون المسمار الذي يدق في نعش الكيان الكردي ، لان ما تبقى من شرق الفرات من سلطة لا يحمل اية سمة كردية وخاصة وان الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر هناك لم يعلن يوما بانه بصدد انشاء ادارة او حكم او كيان يخص الكرد ، بل على العكس فهم يؤكدون على طول الخط على خطأ خيار الدولة القومية وعلى وحدة سوريا ارضا وشعبا وان البديل لديهم هو فلسفة الامة الديمقراطية واخوة الشعوب من خلال نموذج الادارة الذاتية القائمة التي تتشارك فيها جميع المكونات .مما يعيد الوضع الى ما قلناه منذ قليل بان كردستان العراق هو المرشح في استعصاء الصراع القائم مع الحكومة المركزية التي تضغط بكل الاشكال من اجل اعادة الاقليم الى الحظيرة العراقية كجزء عضوي وغير مجزئ من العراق رغم هشاشة الحكومة المركزية وضعفها ،
اخيرا يمكن القول اذا استطاعت بغداد تطويع الاقليم وفرض السيطرة عليه -وهذا الامر غير واضح حتى الان –سيكون نهاية للحلم الذي حلموا به وضحوا بالغالي والنفيس من اجله وأرادوا رؤيته مجسدا في دولة كردية ديمقراطية لاطائفية وعلمانية ، دولة المواطنة المتساوية والتي لا تشبه الدول الاستبدادية القائمة باي شكل من الاشكال .