حزب العمال و«استراتيجية قنديل»

جان كورد
إذا ما ألقينا نظرةً فاحصةً على مؤلفات السيد عبد الله أوجلان العديدة، فسنجد فيها الكلام الكثير والمتناقض عن الاستراتيجية التي وضعها لحزبه الماركسي – اللينيني منذ البداية، وهذه الاستراتيجية التي رافقت ولادة التنظيم ولازمت انتصاراته وهزائمه كانت لا تخرج عن إطار العداء للامبريالية والصهيونية والرجعية، وظلت على الدوام أساساً لكل الفعاليات السلمية والعنفية للحزب، في داخل كوردستان وخارجها، وكان التبجح كبيراً بأنها الاستراتيجية التي ستنقذ الشعب الكوردي من بين براثن النظام الطوراني التركي وستحقق لهذا الشعب الأمن والاستقرار والتقدّم، في ظل العقيدة الأوجلانية التي لن تتنازل عن مبادئها ولن تتراجع عن مهمتها الثورية. 
وسيتحوّل الحزب الطليعي بممارستها عملياً ومن خلال التضحيات الجسام من فاعلٍ صغير إلى قدوة لجميع حركات التحرر الثورية في العالم، بل إن الاستراتيجية التي وضعها السيد أوجلان، وهي في الحقيقة مأخوذة بقضها وقضيضها من الماركسية – اللينينة والشيوعية التركية الفاشلة، ستشمل كل قوى الثورة الأممية ضد أعداء الإنسانية جميعاً. فماذا تبقى من هذه الاستراتيجية اليوم؟ وهل هناك حقاً استراتيجية جديدة، يطلقون عليها اسم “براديغما القائد أوجلان”، رغم أنها في الحقيقة مأخوذة مثل سابقتها من علماء ومفكرين ربما لا يعلمون أين تقع كوردستان ومن هو أوجلان. ولكن يمكن القول عنها بأنها “استراتيجية قنديل” التي يراها البعض ماسحةً لكل ما على سبورة هذا الحزب الماركسي – اللينيني من بقايا الفلسفة الأوجلانية التي يقبع صاحبها في سجنه منتظراً رحمة الله تعالى للخروج إلى الحرية، وصرع الإعلام الآبوجي شبابنا بها عقوداً من الزمن، وزج في ظلها الآلاف منهم في ساحات القتال على أمل تحقيق أهداف الحزب الاستراتيجية تلك، فهل كانت تلك الاستراتيجية مجرّد أسطورة “ثورية” بمجرّد تمكّن الأتراك من إعادة مؤسسها إلى تركيا؟ وما دور عجائز الحزب في كهوف قنديل الذين آمنوا بتلك الآيديولوجية في تحطيم وإزالة حطام العقيدة الآبوجية؟ 
للإجابة عن هذه الأسئلة نحتاج إلى وقتٍ طويل ونقاشٍ واسع وتفكيرٍ عميق، إلاّ أن بالإمكان تلمّس أهم نقاط هكذا بحث بمقالٍ متواضعٍ كهذا، ومنها:
أولاً- الاستراتيجيات يضعها خبراء في مختلف أوجه الحياة السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، ويتّم ذلك في جامعات ومعاهد وبمساهمة ومشاركة متأنية ومستندة على وثائق ومعلومات وبيانات واحصائيات عديدة لوضع جدول عمل البناء الاستراتيجي، وليس شخص واحد مهما كان عبقرياً وقديراً أو مجموعة من طلاب الجامعة الذين يلتقون سراً ويضعون استراتيجية “تحرير شعب”، ثم عندما يقرر هذا الشخص فشله في تحقيق أهداف حزبه أو رفاقه، يغيّر الاستراتيجية أو يملى عليه للسعي من أجل استبدالها  وهي التي ضحى في سبيلها بآلاف الأتباع المخلصين من الأنصار.  مثل هذه الاستراتيجيات لا توجد سوى بين شعبنا الكوردي حسب معرفتي المتواضعة. 
ثانياً- كيف يمكن التخلّي بهكذا سهولة ومرونة عن أسس الاستراتيجية التي خاض من أجلها حزب معروف بعناد كوادره وصلابتهم الكفاح المسلّح من أجل القضاء على نفوذ “الامبريالية والصهيونية والرجعية!” في تركيا، ثم باتصالٍ تلفوني أو برسالةٍ من الزعيم، دون أي اعتراض، يتبنى حزبه استراتيجية جديدة تقوم على أساس “النضال الديموقراطي!” بعد أن كانت الديموقراطية “جريمة أخلاقية وسياسة منحرفة” والأحزاب العاملة لتحقيق الديموقراطية خائنة لشعوبها حسب تراث الحزب الطبقي، ويتم التخلّي عن “الكفاح الثوري الأممي” في سبيل “تحقيق النظام الايكولوجي وفق براديغما الزعيم!”، ويف يتم حذف كل إشارة إلى الحق القومي للأمة التي خاضت الحروب المتتالية وقدمت التضحيات الجسام في تاريخها من أجل حريتها واستقلالها، في ظل الاستراتيجية الجدية التي تسمح لمقاتلي حزب ثوري أن يسيروا في مقدمة الدبابات “الامبريالية” خارج حدود الأرض التي ولد عليها وتأسس لها؟ كيف يتم هذا ولا يزال العلم الأممي وراء كل قادة الحزب وهم يتلون علينا مبادىء الاستراتيجية الجديدة التي تخدم أعداء هذا العلم بالتأكيد؟ 
ثالثاً- في الاستراتيجية القديمة، كانت ذريعة التعامل مع نظام الأسد السوري هو أنه نظام “تقدمي!”، وفي الاستراتيجية الحديثة يجري التعامل بذريعة قتال الإرهاب الداعشي، مع جيش الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يشك أحد في أنها ليست “تقدمية” مثل نظام الأسد،  بل تطلق على رأس هذا النظام نعوتاً لا نسمح لأنفسنا بتكرارها هنا. فكيف يمكن التوفيق بين الحالتين والمراوحة بين فلسفة “الثورة” وفلسفة “الخدمة الطوعية” لأعداء الشيوعية؟ 
رابعاً – إذا ما صدقنا أن الاستراتيجية السابقة كانت فاشلة ولذا تم تبديلها أو لنقل تحديثها بقرارٍ من القائد الذي “لاحياة من دونه!”، فهل أنجز حزبه أي خطوة ديموقراطية حقيقية داخل تنظيمه، قبل الدعوة لتطبيقها في المجتمع؟ أو خوض المعارك في سبيلها بعيداً عن أرض الكورد، فإنها معجزة أن يكون الحزب كما في السايق ذا تنظيم ستاليني لا يتزعزع ويطبّق الديموقراطية في الوقت ذاته، أم أن “ديموقراطية ستالين” هي المقصودة بالانتقال إلى هذه الاستراتيجية؟ 
خامساً –  طالما الانتقال الاستراتيجي قد نجح، فلماذا لا يتخلّى الحزب عن “الكفاح الثوري” ولا ينتقل إلى “النضال السلمي الديموقراطي” رغم الصعوبات والعراقيل؟ فلماذا أرسل السيد أوجلان بعض كوادره ليستسلموا للحكومة التركية، في حين لم يأمر بذلك أحداً من رفاقه القياديين أم أنهم “مقدسون!”، أم أنهم رفضوا تنفيذ أوامره بالاستسلام؟ هنا غموض لا يمكن ستره بخطابات السيد مراد قره يلان التي تعكس الفشل السياسي والفكري والعملي لحزب العمال، فإما الحفاظ على الاستراتيجية البائدة والاستمرار في الحرب “الثورية” ضد أعداء الثورة الأممية التي سطع نورها الأوجلاني على أمريكا الجنوبية واللاتينية، كما سمعنا من قنديل وهذا يعني محاربة أمريكا الشمالية، لا مسح الجوخ لدى ضباطها كما يجري في شرق الفرات الآن، وإما التخلي عن الكفاح المسلح والسير مع الأمريكان وحلفائهم الامبرياليين والرجعيين إلى نهاية الطريق المرسوم من قبلهم. 
وهكذا يمكن الدخول خطوة خطوة في خيمة “الاستراتيجية الجديدة!” للحزب الذي يفاجئنا كل يوم بتصريحٍ غريب على ألسنة عجائز قنديل، ومنها مثلاً “نحن لانسعى لتقسيم تركيا!!!”، إذأً ماذا تفعلون في جنوب كوردستان، ولماذا تسلّطون كوادر من شمال كوردستان على شعبنا في غربها؟ فهل أنتم حقاً حزب “تركي” لا يريد تجزئة تركيا كما تزعمون، أم أنكم تضحكون على شعبنا وعلى الحكومة التركية وتخدعون كوادركم المستعدين للموت من أجل كوردستان وليس من أجل تركيا أو لتحرير دير الزور؟ ففي هذا العصر لا يمكن خداع الناس بهذا الشكل المبتذل بذريعة تبني “الاستراتيجية الحكيمة الجديدة للقائد المعصوم!”.
kurdaxi@live.com       
          ‏05‏ حزيران‏، 2018

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين من المعلوم انتهى بي المطاف في العاصمة اللبنانية بيروت منذ عام ١٩٧١ ( وكنت قبل ذلك زرتها ( بطرق مختلفة قانونية وغير قانو نية ) لمرات عدة في مهام تنظيمية وسياسية ) وذلك كخيار اضطراري لسببين الأول ملاحقات وقمع نظام حافظ الأسد الدكتاتوري من جهة ، وإمكانية استمرار نضالنا في بلد مجاور لبلادنا وببيئة ديموقراطية مؤاتية ، واحتضان…

كفاح محمود مع اشتداد الاستقطاب في ملفات الأمن والهوية في الشرق الأوسط، بات إقليم كوردستان العراق لاعبًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين أطراف متخاصمة تاريخيًا، وعلى رأسهم تركيا وحزب العمال الكوردستاني، وسوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في هذا السياق، يتصدر الزعيم مسعود بارزاني المشهد كوسيط محنّك، مستفيدًا من شرعيته التاريخية وصلاته المعقدة بجميع الأطراف. ونتذكر جميعا منذ أن فشلت…

خوشناف سليمان في قراءتي لمقال الأستاذ ميخائيل عوض الموسوم بـ ( صاروخ يمني يكشف الأوهام الأكاذيب ) لا يمكنني تجاهل النبرة التي لا تزال مشبعة بثقافة المعسكر الاشتراكي القديم و تحديدًا تلك المدرسة التي خلطت الشعارات الحماسية بإهمال الواقع الموضوعي وتحوّلات العالم البنيوية. المقال رغم ما فيه من تعبير عن الغضب النبيل يُعيد إنتاج مفردات تجاوزها الزمن بل و يستحضر…

فرحان مرعي هل القضية الكردية قضية إنسانية عاطفية أم قضية سياسية؟ بعد أن (تنورز) العالم في نوروز هذا َالعام ٢٠٢٥م والذي كان بحقّ عاماً كردياً بامتياز. جميل أن نورد هنا أن نوروز قد أضيف إلى قائمة التراث الإنساني من قبل منظمة اليونسكو عام ٢٠١٠- مما يوحي تسويقه سياحياً – عالمياً فأصبح العالم يتكلم كوردي، كما أصبح الكرد ظاهرة عالمية وموضوع…