ماجد ع محمد
“ الصديق المنافق أسوأ من عشرة أعداء”
ايسوب
بالرغم من أن الكثير منا قد يجاهر طوال يومه في المجالس العامة بكرهه النفاق والمنافقين، مستحقراً مَن كانوا منهم، ومَن هو في عِدادهم، ويذم أهل المداهنة والمراوغة والمراءات في العلن، وحيث كان قد سبقنا الفيلسوف الصيني كونفوشيوس منذ قرون من الزمان في الاشمئزاز من هذه الآفة الاجتماعية عبر قوله: “إن الإنسان الذي يقول كلاماً مزيناً ومنمقاً كاذب، ويتظاهر بمظهر ريائي ليجاري رغبات الناس، ليبدي تقربه منهم لغايات مصلحية صرفة،
فذلك الإنسان قلما يكون لديه مبادئ أخلاقية”، وذلك بما أن المزاودة أو المحاباة لا تكون إلّا مع أهل الباطل، لأن أهل الحق لا يحتاجون إليها أصلاً، إلاّ أن نفس الذي كان ينزل قدحاً بالمرائين تراه عند خُلصائه وفي خلواته مع من هم من عترته يبوح في حضرتهم بخلاف ما يجاهر به بين الناس عن نفس العلة، فقد يقول لهم: صراحةً لا يفلح في مجتمعنا إلاّ مَن كان من أهل الدجل والتملق ومجيداً ارتداء الأقنعة.
وفي هذا المجال قد يتمادى ويمرّر نصائحَ تحضُ على النفاق لمن حوله كقوله: اخوتي ضعوا جانباً شعارات السياسيين وتنظيراتهم على الملأ وكونوا واقعياً منافقين، فما فلح في بلادنا منذ أن فارقها الفرنسيون وحكمها البعثُ غير أهل النفاق، بينما أهل الصدق في خسرانٍ دائم، وكمثال قريب منكم، فالذين كانوا وشاة وشبيحة وعواينية لدى نظام الأسد في أكثر من مكانٍ في البلد، هم أنفسهم غيروا جلودهم وصاروا شبيحة وعواينية لدى أي فئة عسكرية تبسط سيطرتها على نفس المنطقة، مستطرداً في إرشاداته: اقتدوا اخواني بأرجاس النفاق لا حباً بهم وبالنفاقِ، إنما كوسيلة قميئة ولكن لا بد منها من أجل دوام العيش والدفاع عن الذات.
ولأن التلحف كل فترة بقفطان أيديولوجي معين ليس بالأمر الهيّن، لذا يُخفق بعضنا في إخفاء مكنوناته والتظاهر بما يخالف مستبطناته، وكمثال شخصي فمنذ بدء مجيئي إلى تركيا فكثيراً ما استغرب بعضهم من استمراري كما كنتُ عليه في سوريا، متسائلين عن كتاباتي التي أنتقد فيها بعض المواقف أو التصريحات الصادرة عن مسؤولي هذه الدولة، فأقول بأني لم أشعر يوماً بأي خطر يهدّد حياتي من قبل البوليس أو الأمن أو المواطن التركي على الأقل إلى هذه الساعة، ولكن جل خشيتي هي على الأغلب كانت من أبناء بلدي المتملقين الذين يتوددون كذباً ونفاقا من رجالات الحكومة التركية، كما يتودد السمسارُ إلى شخصٍ ما حتى ينال غرضه منه، إذ أن السوري المتزلف الذي قضى سنين طويلة من عمره وهو يمدح حوافر حصان الأسد، ومخالب كلب الأسد، وخيطان حذاء الاسد، والذي تحول فجأة من عبادة الأسد الى عبادة غيره هو من أخشى منه، وقلتُ مرةً في مكانٍ ما: صراحة بتُ أخشى على الأتراك من نفاق وتملق بعضنا، وأخشى من أن يحولوا تركيا إلى دولة دكتاتورية، كما كان مديحهم وتقريظهم وتطبيلهم هو أحد أهم أسباب تحويل رئيس غُر إلى دكتاتور وكائن متوحش.
وواحدة من آيات التملق لدى بعض السوريين في الداخل هي المزاودة في شتم آل الأسد والطائفة العلوية وذلك لكي يُظهروا بأنهم معارضون للنظام، وفي تركيا تكمن المزاودة في شيطنة حزب العمال الكردستاني التركي.
فبخصوص شتم العلوية وأل الأسد نسي بعضهم بسرعة البرق بأنهم هم دون غيرهم من كانوا يؤلهون الطاغيه، بينما حينها كان مشكوكٌ بولاء كل من لا يعظّم قائد الأمة وجحجاحها، وكان المتردّد في مدح ملهم البعثِ محط شكٍ دائم لدى نفس هؤلاء المتملقين، لأنه لم يكن ليقدس الزعيم، ولم يكن يحمده ويشكره على طريقتهم الفجة في تقريظ المؤله مِن قبلهم، حيث أنهم أنفسهم الذين سرعان ما بدؤوا يرون زعيمهم المقدس طاغية وباشروا بشتمه وراحوا يتهيؤون لأكله، بينما مَن بقي على سجيته السابقة في نقد نظام البعث الذي أتى بالأسد والقادر على أن يأتي بعشرات الزعماء مثله، صاروا يشكّون بولائه للمنتفضين على الطاغية، نفس الطاغية الذي كانوا في الأمس من أشد المتحمسين للتصفيق والتطبيل له.
أما بخصوص محاربة حزب العمال الكردستاني التركي، أحسبُ أنه لو قدّر لبعض السوريين المزاودين أن يتحكموا بمصير المناطق الكردية في تركيا لأبادوا كل من حَب أوجلان، أو آمن بنظريته، أو تعاطف مع ذلك الحزب أو أحد فروعه، أو مَن آوى أحداً منهم، مع أن هذه الرغبات المبنية على الحقد والاحتقانات السابقة ربما لم تراود خيال أي حزب تركي في العصر الراهن، باعتبار أن الكثير من المقربين من ذلك التيار السياسي في تركيا لا يزالون في مواقع المسؤولية، ولا يزال البرلمان التركي يحوي العشرات ممن يدافعون عن عبدالله أوجلان كمواطن تركي وكسجين سياسي في تركيا، وعلماً أن عائلته وأبناء عشيرته يعيشون بأمانٍ تام ولا أحد في الدولة التركية اجتهد وفكر في الاستيلاء على الأموال المنقولة وغير المنقولة لعائلة أوجلان أو لعشيرته أو للمتعاطفين معه، كما تفعل بعض الفصائل المنافقة في منطقة عفرين التي استولت على بيوت ومحال المواطنين بذريعة أنها لأناس من حزب الاتحاد الديمقراطي! مَن يدري فلربما يفعلون ذلك بإرشادٍ مباشر من بعض السوريين الماهرين في النفاق وَالتملق للحكومة التركية الآن، ممن كانوا ماضياً في أتم انشراحهم وهم في طوابير التملق المصطفة أمام أبواب وشبابيك نظام البعث الذي أتى بالأسد وألههُ؟ هذا علماً أن من أصغر واحد من المرائين السوريين إلى أكبر واحد من أهل التملق فيهم يعرف جيداً بأن من دمّر سوريا هو حزب البعث، ومن استخدم الكيماوي هو حزب البعث، ومن شرد الملايين هو حزب البعث، ومن قتل عشرات الآلاف من السوريين هو حزب البعث، وليس أي حزب آخر ومع ذلك لم يصدر عن فيالق المتملقين السوريين أي قرار بحق حزب البعث، أو المؤمنين بالبعث، أو مَن يحبون البعث، أو مَن لا يزال يؤمن بضرورة وجود آثار الحزب على سطح أحقافهم، ومن كل بد أنه مقارنةً مع ما فعله حزب البعث بسوريا والسوريين، لا ريب أن حزب العمال الكردستاني لم يفعل بهم 5% مما فعل البعث، ومع ذلك يتململ أو يتكوّر المتملق كالقنفذ على ذاته حيال حزب البعث، ويتجاهل كل دناءات وجرائم وفظائع ومجازر البعث الذي كان الأب الشرعي لانتعاش حزب العمال الكردستاني في سورية، ولكنه كرمى رضا تركيا عنه تراهُ على استعداد لأن يحارب أي كردي يميل إلى ذلك الحزب الذي أصلاً لم يرتكب الجرائم إلا بحق الكرد وليس بحق أي مكون سوري آخر، ولكن ماذا بوسعنا أن نتكلم عمن لا يرى نفسه إلاّ مستجدياً الرضى على أبواب الزعماء والسلاطين؛ ففي الأمس كان جاثماً على باب الأسد، واليوم هو ماكث على باب زعيمٍ آخر، وغدا لا نعرف على باب مَن مِن أهل السلطان سيقف؟!
ختاماً فحتى بخصوص رفع صور الرئيس التركي، والعَلم التركي بكثافة في المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، وحسب المعلومات المتوفرة لدينا أن كل المزاودة هي من صنع المحبكجية السوريين وليس لتركيا أي دور فيها؛ ما يعني بأن نفس الذين كانوا زمناً طويلاً من محبكجية بشار حافظ الأسد ولأمراضٍ ثقافية ما يعنون منها، هم على استعدادٍ دائم ليكونوا من محبكجية أي زعيم آخر يتم تصويره لهم على أنه الهِبة الجديدة التي نزلت عليهم من السماء بعد فترة من التسويق الأيديولوجي له، وطبعاً بعد تحقير الزعيم الذي كان قبله من أهل التبجيل لديهم، وذلك تطبيقاً لما ورد في المثل الشعبي: ” الي يجي نصفق له والي يروح نعفط له*”، كما أن ثقافة التملق التي يعاني منها فئة لا بأس بها من الشعب السوري تجسد تماماً حالة الأعرابي الذي سئل إن كان من أصحاب الإمام علي أم من أتباع معاوية والذي كان جوابه “الصلاة خلف علي أقوم وطعام معاوية أدسم والقعود على هذا التل أسلم”، ويظهر أن ثقافة التملق ترسخت لدى بعضهم منذ أن كانوا ماكثين في حضن البعث الحاكم، واستمرت على حالها معهم إلى ما بعد الانضمام إلى صفوف المناهضين للنظام؛ ولكن يبقى هناك تساؤل لا يفارق مخيلتي ألا وهو: يا ترى كيف لك أن تحترم بشرياً يبول اليوم على صورة مَن كان يقدسهُ في الأمس؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عفط: العافط حسب القاموس هو الزاجر والمستهزئ .