ابراهيم محمود
2-مكابدات أوجاع الطريق
سأؤجّل الحديث عن السليمانية قليلاً، وإن كان العنوان يهبُها الحضور الأتم، من باب تعميق مفهوم الطريق بالذات، فهذه المسافة الطويلة لا تعني مجرد قطع طريق، إنما معايشة أحوال بشر من لحم ودم على جانبي الطريق.والطريق ذو عمق، وهذا ما يجعله ثلاثي الأبعاد.
ولقد أمضينا: العائلة وأنا، ليلة في بيت الصديق فرمان بونجق، ليلة شهدت جانباً من أوجاع اللاجئ الكردي والطريق المتفرع لها، ومفاقات الكرد في طريق يتقطع بهم هنا وهناك.
هناك كامب ” كَفِر كُوسك “، حيث ناحية ” كفر كوسك ” متاخمة له، حيث تقيم فيها عائلة فرمان بونجق العامل في مجال حقوق الإنسان. يكفي على المار بجوار الكامب أن يلقي نظرة على الخيام أو البيوت المصنَّعة، إن جاز التعبير للكامب، حتى تمثُل أمامه عشرات الطرق، مئاتها، وكيف ينتشر عليها أفراد أهواء، وأفراد ميول، وأفراد مواجع، ففي كل خيمة ثمة جملة حكايات، في كل بيت مركَّب ربما فاجعة. ثمة أفراد قطعوا طرقاً وبلغوا ما أرادوا بلوغه بعيداً بعيداً عن الديار، وآخرون قطعوا طرقاً ولم يبلغوا ما أرادوا بلوغه، وخلافهم تاهوا في طرق، وعائلات قذفتهم الطرق على جنباتها، وسواها تنكبت في طرق عدة.
يدرك الكامبي وحده ما يكون الطريق تصريف إيلام، وإعراب معاناة بالنسبة إليه، طريق متجهم، طريق موحش، طريق وعر، طريق ملغوم، طريق غير آمن، طريق مشبوه…الخ، وفي كل هذه الحالات لا بد أن يأتي الحديث نازفاً هموماً ومنغصات وتنهدات.
لا ندري كيف كانت طرق الكامبي تتقاسمنا، أو نتبادلها، لنريح أنفسنا ولو قليلاً، ووحدهم من رأوا في هذه الطرق ضالتهم للإيقاع ببني جلدتهم، وتحت أكثر من مسوّغ كردايتي، بحيث تكون شكوى الكردي من الكردي أحياناً مضاعفة مقارنة بشكواه من خلافه أحياناً.
ولقد أردنا لحديثنا أن يتشعب، ولو أنه تركَّز على تمزقات السوريين والكرد ضمناً، ونحن نتجه إلى أربيل للقاء موجز مع الصديق كاميران حاجو بناء على موعد، وقد حملت إليه نسخة من كتابي ” دولة حاجو آغا الكردية ” حيث لم تسنح له ظروفه لتأمين نسخة منه، هناك، حيث كان، حضرت طرق أخرى أكثر تميزاً بالطول والمكابدات.
في السياق الثقيل الوطء، تتراءى هولير/ أربيل هادئة، حيث أضواء الليل تداعب متخيلها الجغرافي، حيث حركة السيارات تترجم طبيعة المدينة : العاصمة الكردية وأهميتها، واختلاف الأبنية والعمارات ذلك التنوع في كل جهة، وما ترمز إليه عمرانياً، دون إخفاء علامات الهدوء، لكن ذلك لا يعني البتة أن هولير/ أربيل تعيش في هدوء، كما تنام نوم قرير العين هاديها، وتصحو بهدوء دون معايشة كوابيس أحلام، وتتبصر حدودها في هدوء، فالمدن كيانات عضوية لا تتستر هي الأخرى على جراحاتها وأناتها وخيباتها التاريخية، تبعاً للمكان والزمان، وليست هولير/ أربيل استثناء، بالعكس من ذلك، ربما تكون هناك جرعة مقارعة الألم التاريخي والجغرافي مضاعفة إن أخلصنا للطرق التي تعبرها، وتلك التي تصلها بالجوار وأبعد من ذلك .
في تموجات الأضواء اللهبية الشفافة، تبدو الصور التي تتخَم بها الشوارع والساحات وتلك المعلقة على أعمدة الكهرباء، وفي أمكنة مختلفة لمن رشحوا أنفسهم للانتخابات البرلمانية المحلية والعراقية، كما لو أنها تعيش هماً خاصاً بها، وتسلك طرقاً خاصة بها، من خلال الحضور المكثف لها بأحجامها والكتابات الدعائية لكل صورة، وتلك الهيئات التي تجلوها، كما لو أنها تحيل المكان بجهاته الأربع إليها، مأخوذة هي الأخرى بهمومها، وبطرقها التي قد تتداخل مع الطرق المشار إليها، أو المتقاطعة معها بأكثر من معنى، وما فيها من غرائبيات الكردي.