عمر قدّور
لا ندري إن كانت المصادفة قد جعلت الرئيس السوري يشير، بشيء من الاستطراد، إلى قضية الأكراد المجردين من الجنسية، في خطاب القسم بتاريخ 17/7/2007.
فالواقع أن هذه القضية تنهي أربعة عقود ونصف العقد من اللا حلّ، وقد بشّر الرئيس بحلّ من نوع ما، مع الإشارة إلى أن “أي طرح بعد حل موضوع الإحصاء يعتبر محاولة لهزّ استقرار الوطن”، ما يدفعنا إلى استباق ذلك، وعرض هذه الحالة الشاذة، مع قناعتنا بأن المعالجة الجذرية وحدها الكفيلة بطيّ هذا الموضوع نهائياً.
لا ندري إن كانت المصادفة قد جعلت الرئيس السوري يشير، بشيء من الاستطراد، إلى قضية الأكراد المجردين من الجنسية، في خطاب القسم بتاريخ 17/7/2007.
فالواقع أن هذه القضية تنهي أربعة عقود ونصف العقد من اللا حلّ، وقد بشّر الرئيس بحلّ من نوع ما، مع الإشارة إلى أن “أي طرح بعد حل موضوع الإحصاء يعتبر محاولة لهزّ استقرار الوطن”، ما يدفعنا إلى استباق ذلك، وعرض هذه الحالة الشاذة، مع قناعتنا بأن المعالجة الجذرية وحدها الكفيلة بطيّ هذا الموضوع نهائياً.
تعود مشكلة الأكراد المجرّدين من الجنسية إلى عام 1962، فقد نصّ المرسوم التشريعي رقم 93 بتاريخ 23/8/1962، في مادته الأولى، على إجراء “إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يُحدد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناء على اقتراح من وزير الداخلية”.
كما نصّ في مادته السادسة على: “عند الانتهاء من عملية إحصاء السكان في محافظة الحسكة تُشكّل لجنة عليا بمرسوم جمهوري بناءً على اقتراح وزير الداخلية لدراسة نتائج الإحصاء وتقرير تثبيتها في سجلات الأحوال المدنية الجديدة أو عدمه، وإعداد التعليمات اللازمة بذلك”.
وبالفعل أُجري الإحصاء في يوم واحد فقط هو 5/10/1962، وتم تثبيت نتائجه خلافاً لأي منطق.
فالمسافرون في ذلك اليوم، والعائلات المقيمة في محافظة أخرى، كانوا معرضين لفقدان جنسيتهم قانوناً! لكن النوايا الشوفينية وراء الإحصاء الاستثنائي تتضح مع النتائج، إذ لم يفقد أحد جنسيته سوى ما يزيد على خمسين ألفاً من الأكراد الذين مُنحوا وثائق إقامة تصفهم بـ”أجانب أتراك”، بعض المصادر الكردية تشير إلى أكثر من مائة ألف، وبعد صدور المرسوم رقم 276 عام 1969 تم تعديل تلك الصفة لتصبح “أجانب سوريين”!
لا يتسع المجال لسرد فضائح ذلك الإحصاء، فعلى سبيل المثال جُرِّد الجنرال توفيق نظام الدين من الجنسية وهو رئيس الأركان العامة في سوريا سابقاً، وكذلك شقيقه عبد الباقي نظام الدين وهو وزير ونائب سابق، والأمر نفسه بالنسبة لعائلة ابراهيم باشا المللي، علماً بأن عميد العائلة كان أحد أعضاء المجلس التأسيسي للبرلمان السوري عام 1928.
وتطول القائمة، فهناك آباء أُبقيت لهم الجنسية السورية في الوقت الذي جُرّد أبناؤهم منها أو العكس، وهناك أشقاء توزعوا بين حملة جنسية ومجرّدين منها، وبالطبع كل ذلك كان من نصيب الأكراد، إذ لم تُسجّل حوادث مماثلة لجهة العرب أو الاثنيات الأخرى المقيمة في محافظة الحسكة.
ولأن مَنْ يحملون الجنسية السورية لا يشعرون بالأمر كامتياز فلربما يجدر بنا أن نشرح ما يعنيه تجريد أولئك من الجنسية السورية، فالمسألة لا تتعلق بمشاعر الانتماء وإنما بمجمل قضايا العيش.
المجرَّد من الجنسية لا يحق له التملك، وإذا قيّض له أن يشتري منزلاً أو محلاً تجارياً فهو مضطر إلى تسجيله باسم أحد السوريين، وهذه العملية ليست مضمونة النتائج دائماً.
يستطيع المجرّد أن يعلّم أولاده في المدارس والجامعات السورية ولكن بلا جدوى، فالشهادة العلمية التي ينالها “الأجنبي السوري” لا تنفعه في شيء ما دام محروماً من الوظيفة العامة، ومن الانتساب إلى النقابات التي تمنح تراخيص العمل في مهن مثل الطب والهندسة والمحاماة وغيرها.
لهذا، وبسبب الفقر أيضاً، يفضّل المجرّدون أن يعمل أولادهم على إضاعة وقتهم في الدراسة، ولنا أن نتخيّل نوعية الأعمال التي تقوم بها هذه الشريحة ما دامت محرومة من التملك والوظائف.
ويكتمل الحصار بعدم قدرة هؤلاء على السفر، فالوثائق التي يحملونها لا تمكنهم من المغادرة.
ولكي تتعزز العزلة، ويُمنع الحل الاجتماعي لهذه القضية، فقد صدرت قرارات خاصة بذلك، وعلى سبيل المثال يحقّ للمرأة السورية أن تمنح جنسيتها لأطفالها إذا تزوجت من أجنبي، لكنها تُحرم من هذا الحقّ فيما لو تزوجت من “أجنبي سوري”.
وأيضاً تُمنح الجنسية للمرأة الأجنبية فيما لو تزوجت من سوري، لكن هذا لا ينطبق على “الأجنبية السورية”، أي أن الحكومات السورية المتعاقبة فعلت كل ما من شأنه أن يُفقر هؤلاء، ويزيدهم جهلاً، ويحوّلهم إلى طائفة منبوذة.
رافق الإجراءات السابقة نشرُ الأقاويل عن هجرة هؤلاء، أنهم قادمون من تركيا، مع أن كتب التاريخ السوري لا تشير إلى هجرة كردية كثيفة بعد قيام الدولة السورية.
وآخر هجرة معروفة من تركيا هي هجرة الأرمن، وترجع إلى ما يقرب من القرن، وقد حظي الأرمن بضيافة لائقة في سوريا، فهم جميعاً يحملون الجنسية السورية، ويُسمح لهم، بخلاف الأكراد، بتعلم لغتهم في مدارسهم الخاصة، ولا أحد ينظر إليهم كدخلاء.
والأمر نفسه ينطبق على النازحين الفلسطينيين، فهم يحملون وثائق خاصة بهم، لكنهم يتمتعون بكافة “مزايا” المواطنة السورية من التعليم والتوظيف، بالإضافة إلى إشراف وكالة غوث اللاجئين عليهم.
ومن الثابت أن نزوح الفلسطينيين بعد النكبة هو آخر هجرة جماعية تشهدها سوريا، وبصرف النظر عن ذلك فقد شهدت هذه المنطقة طوال تاريخها موجات من الهجرة والارتحالات، وقد كانت حتى تسعة عقود خلت تتبع لدولة واحدة هي الإمبراطورية العثمانية، ومن العبث أن يعود البعض إلى ما قبل الدول الحالية لإثبات وجود سكان أصليين وغير أصليين، وإلا وجبت إعادة الكثيرين من ذوي الأصول السورية الذين يحملون جنسيات مختلفة في دول مجاورة.
أما الأقاويل عن هجرة الأكراد فقد هدفت دائماً إلى تحريض الشعور القومي العربي للتغطية على قضية المجردين من الجنسية، وإظهار هؤلاء بصورة الأجانب الذين يدفعون باتجاه تغيير الواقع الديموغرافي لمنطقة الجزيرة السورية، بغرض المطالبة بانفصالها عن سوريا لاحقاً.
ولقد دأبت حكومات البعث على شتم عهد “الانفصال” السابق لها، ومع هذا حافظت على أشنع مرسوم صدر في ذلك العهد، بل وكرست الإحساس بالغبن والتفرقة بنقل المواطنين العرب من محافظات أخرى وتمليكهم أراضي في محافظة الحسكة، في إطار ما يسمّى مشروع الحزام العربي.
وحتى إن صدّقنا ما يشاع، عن أن هؤلاء تسللوا إلى سوريا بشكل غير قانوني، فإن المنطق يفرض على الحكومة السورية إما قبولهم كلاجئين، ومنحهم وثائق إقامة مؤقتة توضح جنسيتهم الأم، أو الاتصال بالدول التي قدموا منها والتفاوض حول إعادتهم إليها، أو حتى وضع الأمر برسم الهيئات الدولية لتبحث لهم عن حل.
لم تفعل الحكومات المتعاقبة شيئاً من هذا، وبدلاً من ذلك ابتدعت لهم صفة متناقضة ومثيرة للسخرية “أجانب سوريين”، ما استدعى مشاعر مضادة من قبلهم، إذ نظروا إلى أنفسهم كسكان أصليين بينما الحكم هو الدخيل.
ومع ذلك لم يطالبوا سوى بمرسوم جديد يلغي الإحصاء الاستثنائي بكافة مفاعيله، وقد مرت سنوات طويلة إلى أن بانت نذر الحل في خطاب القسم الأخير على الشكل التالي: “هناك التباس بين موضوعين… موضوع إحصاء 1962 وهم الأشخاص الذين أعطوا الجنسية لجزء من العائلة مثلاً ولم يعط للجزء الآخر… وهو حق لهم.
وهناك موضوع ما يسمى المكتومين… كان هناك أيضاً من يعتقد بأنهم جزء من المشكلة في ذلك الوقت.
المكتومون هم أشخاص في سورية من جنسيات مختلفة وليسوا على قيود سورية… ليسوا على قيود السجل المدني في سورية أو أي سجل آخر.
يعني هو موضوع آخر.
كان هناك من يمزج بين موضوع المكتومين وموضوع إحصاء 1962.
أيضاً هناك من أتى إلى سورية من جنسيات مختلفة… ومعظمهم من الأكراد الذين أتوا من تركيا أو العراق لأسباب معاشية سياسية أمنية وغيرها… هذا الموضوع لا علاقة لنا به”.
من الواضح أن الخطاب يقسم من لا يحملون الجنسية إلى فئات متعددة، ثم يشير إلى الحل القادم لموضوع الإحصاء على أنه “الحل الوطني النهائي” و”أي طرح بعد حل موضوع الإحصاء يعتبر محاولة لهزّ استقرار الوطن”.
طبعاً الجميع يريدون الحل الوطني النهائي على أن يكون جذرياً، فلا تبقى حاجة للحديث فيه ولا مبرر لاتهامهم حينها بهز استقرار الوطن، ولهذا لن نجادل في دقة التقسيمات مع أنها تختصر المجردين إلى حوالى ربع العدد المتداول.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا عن الباقين؟ أتستطيع الحكومة السورية، بعد مرور نصف قرن، أن تطرح قضيتهم مع دول الجوار أو مع الهيئات الدولية؟ أم سيبقون هكذا بلا أي وجود قانوني لهم؟
تشير التقديرات إلى أن عدد المجردين من الجنسية يزيد حالياً على مائتي ألف، أي أنهم يشكّلون ما نسبته 10% من أكراد سوريا و1% من إجمالي السكان، يعيشون في منطقة تعتمد أساساً على الزراعة، بينما هم محرومون من تملك الأراضي ويعانون البؤس بمختلف أشكاله.
وأي حل جزئي سيزرع اليأس في نفوس الآخرين الذين سيبقون بلا جنسية، لهذا فإن حل المشكلة يبدأ بإعادة الجنسية لهم، أما الحل النهائي فهو بتعويضهم عن عقود من الإجحاف، وإعداد مشروع تنمية شاملة، يتضمن تمليكهم الأراضي أسوة بالمستفيدين في الفترة السابقة من مشروع إصلاح الأراضي.
بهكذا حلّ يتساوى المجردون مع أقرانهم الأكراد في الظلم، إذ تبقى الحقوق الثقافية التي يعاني الأكراد جميعاً الحرمانَ منها، حتى بالقياس إلى قوميات أقل عدداً مثل الأرمن، لذا فإن إزالة أشكال التمييز السابقة خطوة ضرورية ليتساوى الأكراد مع باقي السوريين في المظالم التي يعاني منها الجميع.
——-
المستقبل – الاحد 29 تموز 2007 – العدد 2688 –
كما نصّ في مادته السادسة على: “عند الانتهاء من عملية إحصاء السكان في محافظة الحسكة تُشكّل لجنة عليا بمرسوم جمهوري بناءً على اقتراح وزير الداخلية لدراسة نتائج الإحصاء وتقرير تثبيتها في سجلات الأحوال المدنية الجديدة أو عدمه، وإعداد التعليمات اللازمة بذلك”.
وبالفعل أُجري الإحصاء في يوم واحد فقط هو 5/10/1962، وتم تثبيت نتائجه خلافاً لأي منطق.
فالمسافرون في ذلك اليوم، والعائلات المقيمة في محافظة أخرى، كانوا معرضين لفقدان جنسيتهم قانوناً! لكن النوايا الشوفينية وراء الإحصاء الاستثنائي تتضح مع النتائج، إذ لم يفقد أحد جنسيته سوى ما يزيد على خمسين ألفاً من الأكراد الذين مُنحوا وثائق إقامة تصفهم بـ”أجانب أتراك”، بعض المصادر الكردية تشير إلى أكثر من مائة ألف، وبعد صدور المرسوم رقم 276 عام 1969 تم تعديل تلك الصفة لتصبح “أجانب سوريين”!
لا يتسع المجال لسرد فضائح ذلك الإحصاء، فعلى سبيل المثال جُرِّد الجنرال توفيق نظام الدين من الجنسية وهو رئيس الأركان العامة في سوريا سابقاً، وكذلك شقيقه عبد الباقي نظام الدين وهو وزير ونائب سابق، والأمر نفسه بالنسبة لعائلة ابراهيم باشا المللي، علماً بأن عميد العائلة كان أحد أعضاء المجلس التأسيسي للبرلمان السوري عام 1928.
وتطول القائمة، فهناك آباء أُبقيت لهم الجنسية السورية في الوقت الذي جُرّد أبناؤهم منها أو العكس، وهناك أشقاء توزعوا بين حملة جنسية ومجرّدين منها، وبالطبع كل ذلك كان من نصيب الأكراد، إذ لم تُسجّل حوادث مماثلة لجهة العرب أو الاثنيات الأخرى المقيمة في محافظة الحسكة.
ولأن مَنْ يحملون الجنسية السورية لا يشعرون بالأمر كامتياز فلربما يجدر بنا أن نشرح ما يعنيه تجريد أولئك من الجنسية السورية، فالمسألة لا تتعلق بمشاعر الانتماء وإنما بمجمل قضايا العيش.
المجرَّد من الجنسية لا يحق له التملك، وإذا قيّض له أن يشتري منزلاً أو محلاً تجارياً فهو مضطر إلى تسجيله باسم أحد السوريين، وهذه العملية ليست مضمونة النتائج دائماً.
يستطيع المجرّد أن يعلّم أولاده في المدارس والجامعات السورية ولكن بلا جدوى، فالشهادة العلمية التي ينالها “الأجنبي السوري” لا تنفعه في شيء ما دام محروماً من الوظيفة العامة، ومن الانتساب إلى النقابات التي تمنح تراخيص العمل في مهن مثل الطب والهندسة والمحاماة وغيرها.
لهذا، وبسبب الفقر أيضاً، يفضّل المجرّدون أن يعمل أولادهم على إضاعة وقتهم في الدراسة، ولنا أن نتخيّل نوعية الأعمال التي تقوم بها هذه الشريحة ما دامت محرومة من التملك والوظائف.
ويكتمل الحصار بعدم قدرة هؤلاء على السفر، فالوثائق التي يحملونها لا تمكنهم من المغادرة.
ولكي تتعزز العزلة، ويُمنع الحل الاجتماعي لهذه القضية، فقد صدرت قرارات خاصة بذلك، وعلى سبيل المثال يحقّ للمرأة السورية أن تمنح جنسيتها لأطفالها إذا تزوجت من أجنبي، لكنها تُحرم من هذا الحقّ فيما لو تزوجت من “أجنبي سوري”.
وأيضاً تُمنح الجنسية للمرأة الأجنبية فيما لو تزوجت من سوري، لكن هذا لا ينطبق على “الأجنبية السورية”، أي أن الحكومات السورية المتعاقبة فعلت كل ما من شأنه أن يُفقر هؤلاء، ويزيدهم جهلاً، ويحوّلهم إلى طائفة منبوذة.
رافق الإجراءات السابقة نشرُ الأقاويل عن هجرة هؤلاء، أنهم قادمون من تركيا، مع أن كتب التاريخ السوري لا تشير إلى هجرة كردية كثيفة بعد قيام الدولة السورية.
وآخر هجرة معروفة من تركيا هي هجرة الأرمن، وترجع إلى ما يقرب من القرن، وقد حظي الأرمن بضيافة لائقة في سوريا، فهم جميعاً يحملون الجنسية السورية، ويُسمح لهم، بخلاف الأكراد، بتعلم لغتهم في مدارسهم الخاصة، ولا أحد ينظر إليهم كدخلاء.
والأمر نفسه ينطبق على النازحين الفلسطينيين، فهم يحملون وثائق خاصة بهم، لكنهم يتمتعون بكافة “مزايا” المواطنة السورية من التعليم والتوظيف، بالإضافة إلى إشراف وكالة غوث اللاجئين عليهم.
ومن الثابت أن نزوح الفلسطينيين بعد النكبة هو آخر هجرة جماعية تشهدها سوريا، وبصرف النظر عن ذلك فقد شهدت هذه المنطقة طوال تاريخها موجات من الهجرة والارتحالات، وقد كانت حتى تسعة عقود خلت تتبع لدولة واحدة هي الإمبراطورية العثمانية، ومن العبث أن يعود البعض إلى ما قبل الدول الحالية لإثبات وجود سكان أصليين وغير أصليين، وإلا وجبت إعادة الكثيرين من ذوي الأصول السورية الذين يحملون جنسيات مختلفة في دول مجاورة.
أما الأقاويل عن هجرة الأكراد فقد هدفت دائماً إلى تحريض الشعور القومي العربي للتغطية على قضية المجردين من الجنسية، وإظهار هؤلاء بصورة الأجانب الذين يدفعون باتجاه تغيير الواقع الديموغرافي لمنطقة الجزيرة السورية، بغرض المطالبة بانفصالها عن سوريا لاحقاً.
ولقد دأبت حكومات البعث على شتم عهد “الانفصال” السابق لها، ومع هذا حافظت على أشنع مرسوم صدر في ذلك العهد، بل وكرست الإحساس بالغبن والتفرقة بنقل المواطنين العرب من محافظات أخرى وتمليكهم أراضي في محافظة الحسكة، في إطار ما يسمّى مشروع الحزام العربي.
وحتى إن صدّقنا ما يشاع، عن أن هؤلاء تسللوا إلى سوريا بشكل غير قانوني، فإن المنطق يفرض على الحكومة السورية إما قبولهم كلاجئين، ومنحهم وثائق إقامة مؤقتة توضح جنسيتهم الأم، أو الاتصال بالدول التي قدموا منها والتفاوض حول إعادتهم إليها، أو حتى وضع الأمر برسم الهيئات الدولية لتبحث لهم عن حل.
لم تفعل الحكومات المتعاقبة شيئاً من هذا، وبدلاً من ذلك ابتدعت لهم صفة متناقضة ومثيرة للسخرية “أجانب سوريين”، ما استدعى مشاعر مضادة من قبلهم، إذ نظروا إلى أنفسهم كسكان أصليين بينما الحكم هو الدخيل.
ومع ذلك لم يطالبوا سوى بمرسوم جديد يلغي الإحصاء الاستثنائي بكافة مفاعيله، وقد مرت سنوات طويلة إلى أن بانت نذر الحل في خطاب القسم الأخير على الشكل التالي: “هناك التباس بين موضوعين… موضوع إحصاء 1962 وهم الأشخاص الذين أعطوا الجنسية لجزء من العائلة مثلاً ولم يعط للجزء الآخر… وهو حق لهم.
وهناك موضوع ما يسمى المكتومين… كان هناك أيضاً من يعتقد بأنهم جزء من المشكلة في ذلك الوقت.
المكتومون هم أشخاص في سورية من جنسيات مختلفة وليسوا على قيود سورية… ليسوا على قيود السجل المدني في سورية أو أي سجل آخر.
يعني هو موضوع آخر.
كان هناك من يمزج بين موضوع المكتومين وموضوع إحصاء 1962.
أيضاً هناك من أتى إلى سورية من جنسيات مختلفة… ومعظمهم من الأكراد الذين أتوا من تركيا أو العراق لأسباب معاشية سياسية أمنية وغيرها… هذا الموضوع لا علاقة لنا به”.
من الواضح أن الخطاب يقسم من لا يحملون الجنسية إلى فئات متعددة، ثم يشير إلى الحل القادم لموضوع الإحصاء على أنه “الحل الوطني النهائي” و”أي طرح بعد حل موضوع الإحصاء يعتبر محاولة لهزّ استقرار الوطن”.
طبعاً الجميع يريدون الحل الوطني النهائي على أن يكون جذرياً، فلا تبقى حاجة للحديث فيه ولا مبرر لاتهامهم حينها بهز استقرار الوطن، ولهذا لن نجادل في دقة التقسيمات مع أنها تختصر المجردين إلى حوالى ربع العدد المتداول.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا عن الباقين؟ أتستطيع الحكومة السورية، بعد مرور نصف قرن، أن تطرح قضيتهم مع دول الجوار أو مع الهيئات الدولية؟ أم سيبقون هكذا بلا أي وجود قانوني لهم؟
تشير التقديرات إلى أن عدد المجردين من الجنسية يزيد حالياً على مائتي ألف، أي أنهم يشكّلون ما نسبته 10% من أكراد سوريا و1% من إجمالي السكان، يعيشون في منطقة تعتمد أساساً على الزراعة، بينما هم محرومون من تملك الأراضي ويعانون البؤس بمختلف أشكاله.
وأي حل جزئي سيزرع اليأس في نفوس الآخرين الذين سيبقون بلا جنسية، لهذا فإن حل المشكلة يبدأ بإعادة الجنسية لهم، أما الحل النهائي فهو بتعويضهم عن عقود من الإجحاف، وإعداد مشروع تنمية شاملة، يتضمن تمليكهم الأراضي أسوة بالمستفيدين في الفترة السابقة من مشروع إصلاح الأراضي.
بهكذا حلّ يتساوى المجردون مع أقرانهم الأكراد في الظلم، إذ تبقى الحقوق الثقافية التي يعاني الأكراد جميعاً الحرمانَ منها، حتى بالقياس إلى قوميات أقل عدداً مثل الأرمن، لذا فإن إزالة أشكال التمييز السابقة خطوة ضرورية ليتساوى الأكراد مع باقي السوريين في المظالم التي يعاني منها الجميع.
——-
المستقبل – الاحد 29 تموز 2007 – العدد 2688 –