د. محمود عباس
كفانا صراعاً، استخفافاً بالأخر، كفانا ابتذالاً، وبغضاً، كفانا تشتتا، فنحن في ضياع، وقد حان لنا أن ندرك أن الاختلاف هي المنهجية، ولا تعني العداوة، والنقد لا يقلل من سوية الإنسان الواعي، ففي الأولى نوع من التكامل، حيث يقول العلامة ابن قيم الجوزية “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم” وعلى أسس الثانية يتم تعديل وتطوير الإيديولوجيات، وتتقدم الدول، لكن السلطات المحتلة لكردستان شوهوا المنهجين بين الكرد ورسخوا الخلاف والتهجم، فأصبح الكردي يكره الأخر بمجرد الاختلاف في الرأي، متناسيا العدو،
فمن الطبيعي أن يتجلى هذا في إدارتنا الذاتية، فصعدت حملة الاعتقالات على أثر خسارة عفرين، كونها لم تنجوا من الانتقادات، فيتبدى وكأن المذنب هو الكردي المنتقد وليس المحتل الفاشي، ولا شك لدى المقابل يتم حراك لا يحمد عقباه، فجعلا التخوين من المسلمات، والحالة هذه فمن الطبيعي أن تكون صبغة الخيانة سائدة بيننا! وفي المحصلة أن نتناسى ويتناسوا أن الاختلاف أدب لابد من تثبيته، والخلاف في واقعنا يجب إلا يؤدي إلى الكراهية.
لقد حان لنا أن نعي تاريخنا، من اجل حاضرنا ومستقبلنا، وأن نتجنب أساليب المحتل في فبركته، بما تقتضي مصلحته، وإنما علينا أن نسرده كما هو، فلقد كنا على أمل بعد موجة التغيرات السياسية، والثورة الكردية، أن ننقذ بعضنا من مستنقع الأعداء، ونتقبل الآخر رغم الاختلافات، لكن وإذا بنا ننحدر كشريحة واسعة من الكتاب والإعلاميين إلى هاوية الحروب الكلامية، نزيد من فبركة التاريخ الكردي المفبرك أصلا، وننقلها من التشويه إلى الضحالة، فيصبح صيدا ثمينا لمتصيدي التاريخ الكردي، وعلى أثرها تكاد أن تخسر شريحة من الحركة الثقافية مصداقيتها، واجتر بعضنا فيما كتبه عنا المحتل بإعادة كتابة تاريخنا، فأضافوا عليها بساطتهم، لتظهر أكثر ابتذالا من منهجية العدو، وقزموا فيها سوية الأمة والشعب وحصروها في تاريخ حزب، أو أفراد صنعوا من العدم، مستندين على المواد التي هيئتها لنا القوى الإقليمية، وعتموا بها على ما ابتذله المحتل على مدى العقود الماضية، وبها مهدوا الظروف لديمومة سلبيات الماضي.
وأحزاب تتيه في خدعها للمجتمع إلى درجة المهاترات وتسخر طاقاتها في توافه الأمور، وتجتر ما خططه الأعداء لنا، وهي تنشر من الكتب، والدراسات، والفيديوهات التاريخية، ما لا تحمد عقباه مستقبلاً، وبإسنادات مفبركة أصلا، منها ما أرفقت بكليبات غريبة رخيصة، لا تمت إلى الواقع، مستنسخ من أفلام الهوليوود، تحت حجج ومسوغات واهية، على رأسها المصلحة الوطنية، أو إعادة كتابة التاريخ، متغاضين عما يفعلونه بتاريخ الأمة من الدمار لأجل نزعة فردية بخسة.
معظمنا نتفق على أن المحتل لا يتوانى على إيجاد كل الأساليب والإشكاليات لتوسيع هوة الخلافات بين الكرد، والترويج الأخير لفيديو أخلاقي، بشكل أو أخر يؤدي إلى توجيه أصابع الاتهام إلى رؤساء الإدارة الذاتية والذين هم في عداوة مع حزب اليكيتي والمجلس الوطني الكردي الذابل أصلاً، رغم أن البعض من قادتها متهمون بالتعامل مع الإدارة الذاتية والـ ب ي د، لهذا ولغيرها من الأسباب كان عليهم التعتيم عليها لا ترويجها، ولهم في هذا العمل تاريخ، فعلوها بناشط إعلامي، ومغني، وسياسي، كما والأسلوب بحد ذاته أصبح من أرخص وأقذر الأساليب في عالم الحروب السياسية، ولولا سوابقهم في هذا الفضاء لكانت تركيا المتهمة من دون أدنى شك. ثم ما الخطأ في أن يعبر السياسي (ويدرج هنا المتهم أيضاً رغم اختلافنا معه سياسيا ومواقفاً) كأي فرد من المجتمع كالأديب أو الشاعر عن عواطفه، ومشاعره، فلا إنسان في الكون مجرد من الأحاسيس، ومتى كانت المجاملة والتغزل مع من يريدها ويطلبها جريمة في العالم الحضاري، والفتاة التي نشرت( فيما لو افترضنا أنها غير مفبركة) تتحدث من منطق المجتمع اللامبالي أو المتشرب من الثقافة الأوروبية.
ومن المؤسف له أن الشريحة المثقفة التنويرية والمأمولة فيها لا تعير أهمية لخلفيات هذا الوباء، إلا ما ندر، وكثيرا ما تلتهي بتوافه الأمور، كشريط الفيديو المفبرك والمبثوث إلى الساحة من قبل قوى لا تريد إلا الشر للمجتمع الكردي، وهنا لا يهمنا شخصية المطعون فيه، ولا مصداقية الشريط، ولا من يقف وراءها، فجميعها تصب، أولاً، في خانة خداع الشعب الكردي والاستهزاء بالساذجين من سياسي ومثقفي حراكه، وثانياً، لإلهاء الشارع الكردي والتلاعب ببساطته، وتعمية بصيرته، ومن ثم التغطية على الأمور المصيرية الجارية في كردستاننا.
لقد حان لنا أن نستيقظ، فالأمة في ضياع، والأمثلة المذكورة تثبت أننا نقع في شرك المحتل دون أن ندري، فهي فتات من مجموعة الأوبئة التي لا تزال السلطات المحتلة تنميها بين حين وأخر دون رادع من حركتنا الثقافية، الملتهية أغلبيتها بالصراعات الحزبية، وقضايا التخوين والخلافات الساذجة، فتسيل بيننا ويتلقف العدو ثمارها، علما أن كل ما نحتاج إليه شريحة من المنورين الصادقين مع قضية أمتهم، مجموعة قادرة على إنكار الذات وتفضيل مصالح الشعب على مصالح العائلة أو الحزب، أو العلاقات الشخصية، أو المصالح الذاتية، وتعمل على خلق يقظة قومية بين المتحزبين، وتنمي فيهم الوعي القومي مكان الوعي السائد، وتضع في ذهنهم تحقيق السيادة القومية مكان السيادة الحزبية.
لا نشك لحظة أنه في كردستان شريحة منهم، الذين لا يقلون وعياً إن لم تكن معرفة، عن الذين أمل فيهم فولتير خيرا بتعديل المسيحية، ولا يقلون تراكماً معرفياً عمن غيروا مجرى تاريخ شعوبهم، وأنقذوا أممهم وحركاتهم السياسية من التيه، ونحن هنا لا نتحدث عن الفلاسفة العظماء، مغيري القيم والمفاهيم في الأدب والفكر والفلسفة، منوري دروب شعوبهم في مراحل النضال، فقط نحتاج إلى المصداقية، وقليل من الجرأة، والحوار، وتقبل الاختلافات كأدب، هذا ما كان يتسم به الفلاسفة الإنكليز رواد مفاهيم حق تقرير المصير القومي، والمفكرون الفرنسيون قادة نظرية القومية الواعية، أمثال فولتير، وجان جاك روسو وغيرهم الذين غيروا مسيرة الأمة الفرنسية، وكذلك الفلاسفة الألمان أصحاب ترسيخ نظرية القومية اللاواعية، أمثال ديكارت وفيما بعد سبينوزا وكانط، رواد محرري القومية من ربق الدين.
كثيرا ما تباهينا أننا استفدنا من أخطاء المستعمرين، ولم نقل أن الله وأمريكا وروسيا وهبنا النعمة، وساعدونا للحصول على بعض المكتسبات، وتوقعنا أن مطباتهم ستجلب لنا المزيد، أو على الأقل سنتمكن من الاحتفاظ على ما كان بيدنا في الفترة الأخيرة، لكن تبين أنهم أدهى من توقعاتنا، وسبقونا بتجاوز أخطائهم قبل أن نعرف حتى في كيفية قراءتها، وتمكنوا من تسخير بساطتنا لمصالحهم، فكانت مخططاتهم للمستقبل شبه متكاملة، وعملية التمهيد الدولي المشترك، الأردوغاني -الفارسي قبل احتلال كركوك وعفرين، واستغلالهم لصفاء نياتنا في الدبلوماسية خير مثال، كما وتبينت بعد الاحتلال، من خلال إلهائنا كحركة ثقافية-سياسية ومؤسساتنا الإعلامية بتوافه الأمور أنهم يتقدموننا عقودا من الوعي والإدراك لقادمهم وقادمنا، لذلك ليس فقط لم يسقطوا في المطب، بل تمكنوا من انتزاع الكثير منا، وإدراجنا إلى دوامة لا قدرة لنا على تداركها، ولا حتى على تجنبها، ولم يكتفوا بهذا بل عزلونا دوليا، فأصبح من النادر البحث في قضية الشعب الكردي، لا في الإعلام العالمي ولا ضمن أروقتهم الدبلوماسية، وأزاحوا قضيتنا من معظم المحافل الدولية، وأرسلوها إلى الزوايا المهملة، أو عتموا عليها إلى حين الحاجة، فقد أصبحت أمريكا تسأل من في الواقع يمثل الشعب الكردي سياسيا في جنوب غربي كردستان، ولقد كنا شهودا على ضحالة طروحات الوفود التي استدعيت إلى واشنطن، فلم تتجاوز مسائلهم المعروضة على الطاولة المطالب الحزبية والتي كانت بعيدة عن مصالح الأمة.
لا شك العدو يخطأ ككل المؤسسات الدكتاتورية، لكنها تصبح بلا فائدة، عندما نكون في ضحالة من الوعي وقلة الإدراك، وبقوى مشتتة وشبه مشلولة وأدوات بيد الأخرين، يحركوننا حينما وحيثما يريدون وبأبسط الأساليب، ولهم القدرة على إلهائنا عن قضيتنا عند الضرورة، وفي الواقع وبعد مراجعة معظم الحراك الدبلوماسي الكردي تتبين أن الشخصية الكردستانية تكاد تكون في حكم المنتهي في الوقت الحاضر أمام الدول العالمية، ولكن الشعب الكردي رغم كل المطبات والمآسي والمساوئ التي تضطر الأحزاب خلقها، تنامت فيه مقومات القومية، ولا ينقصه الروح، فقط يحتاج من ينفخ فيه، والتي هي من مهمات الشريحة التنويرية الثقافية، فعليها أن تكثف من جهودها لإيقاظ هذه الأمة، لا أن تلتهي بثانويات الأمور، وتشعرها بوجودها، كشعب قادر على خلق كيانه السياسي المستقل.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
26-4-2018م
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد (70) الناطقة باسم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.