إبراهيم اليوسف
ينظر إلى السجن، كأبشع نقيض للحرية اكتشفه الإنسان عبر التاريخ، بما يوازي فعل القتل الأسطوري الأول، وقد تباينت وجهات النظر إليه، إذ عدَّه بعضهم مدرسة تأديبية، وعده آخرون مدرسة نضالية، كما أن هناك من عده صنواً للقتل، أو حالة تتعدى الموت أو القتل، لأنه سياق واقعي متجدد لفعل القتل، لاسيما في ظل سطوات الطغاة، إذ إن هناك سجون في البلدان التي تحترم حقوق الإنسان، وتكاد الحياة فيها تكون أفضل حالاً من حياة الناس الطلقاء، في سجنهم المفتوح في البلدان التي تعاني من الظلم والعسف وانعدام الحريات، وإن كان السجن أولاً وأخيراً أ بشع وأعظم قيد، أياً كان، وفي أي زمان ومكان، مع الإقرار بأن له أشكالاً متباينة، تتعلق بدرجة احترام مبادئ حقوق الإنسان، من قبل القائمين عليه، أو تحديداً من قبل أولي أمور المكان.
وبعيداً عن الرؤية الطوباوية للسجن، فإن الآراء اختلفت فيه كثيراً، عبر التاريخ الإنساني، إذ ثمة من رأى ضرورة أن يكون العالم من دونه، وهي نظرة الشعراء، والفلاسفة المثاليين، كما أن هناك من رأى ضرورة وجوده كشرط للحياة الآمنة، إذ إن السجن قد يغدو وفق هذا المفهوم كخيار بديل عن الفناء، لاسيما عندما يُلجأ إليه، كمكان عقابي، بحق من ينتهك الحريات، وذلك ضمن جملة شروط وقوانين ودساتير ولوائح حقوقية، بل وبعيد تهيئة أجواء المحاكمة العادلة بحق من يسبب في إلحاق الأذى بالآخرين، أو يلحق الضرر بممتلكاتهم، وغير ذلك، ومن الممكن هنا أن نضع أنفسنا في موقع من يوضع أمر أحد الإرهابيين الذين آذوا الآخرين، وتسببوا في قتل الأبرياء، والسطو على ممتلكاتهم، أو انتهاك كراماتهم، بيده، وهو موقف جد محرج يضع المحاكمات الأخلاقية والعقلية على محكات ومواجهات وأطروحات نظرية جد محرجة!؟
واتخذت شخصية السجان، أو الجلاد، اللذين يترجمان دكتاتورية الحاكم، كأحد الرموز في الأدب، والمخيال الشعبي، ما أدى إلى النفور من مثل هاتين الشخصيتين القميئتين، لاسيما عندما نكون أمام حالة- سجن سياسي- أو سجن نتيجة الرأي، أو سجن نتيجة الموقف، وغير ذلك، كما أن السجن يأخذ رمزية تختصر القيود المعنوية والواقعية للحاكم، كأن يحول هذا الأخير، البلاد كلها، إلى مجرد سجن كبير، وما هذا السجن إلا مكان مكثف، رمزي، كأداة للشر، لاسيما عندما تنعدم الحريات في هذه البلاد، ليكون السجن صنو القمع، ومكانه المكثف، وأداته، وصورته، وصدى مصطلحه الذي تقشعر له الأبدان.
ولقد كان الكردي، على امتداد خريطة وجوده في التاريخ المعاصر من عداد نزلاء سجون جغرافيتهم، على اختلاف لغات سجانيها: أتراكاً، وفرساً وعرباً- وهذه المصطلحات غير قابلة للتعميم البتة- ولقد نُظر إلى السجين السياسي، من قبل الكردي على أنه ذا مرتبة متميزة اجتماعياً، لا يمكن لأي مناضل أن يصلها، لاسيما عندما يكون سبب اعتقال هذا السجين هو نضاله الحقيقي، الصرف، من أجل سواه، بعيداً عن اعتقالات “المصادفة” “العابرة” التي قد تخلو من أي رصيد نضالي ملموس، إلا أن المعتقل هنا أيضاً ليعدُّ ضحية موقف نضالي، حتى وإن لم يقم به هو نفسه، وسبب انتشار هذا النمط من الاعتقالات هو أن الكثير من الأنظمة المتعاقبة في المنطقة لطالما لجأت إلى اعتقالات المظنة، أو الحكم على النوايا، أو اعتقالات الهوية، وكان هناك معتقلون، في المقابل، لا رصيد اجتماعياً، أو نضالياً، في سجلاتهم، إلا أن من يتم اعتقاله من أجل رؤاه، أو من أجل سعيه للتغير، وخدمة سواه من أبناء مجتمعه أو بلده، فهو الذي يتفرد بالاحتفاء والعناية، إذ إن عبارة” معتقل سابق” أو” معتقل حالي” تضفي على اسم أي مناضل مكانة، وتمنحه منزلة كبرى، لدى من لهم مواقفهم ممن بيده مفاتيح سجون البلاد.
وإذا كان حزب العمال الكردستاني ، من عداد الأحزاب الكردستانية التي دفعت قائمة كبيرة من أعضائه حياتهم في سجون تركيا وإيران وسوريا وبغداد، والعالم، ولايزال قائده السيد عبدالله أوجلان- فكَّ الله أسره- معتقلاً لدى تركيا منذ أكثر من تسع عشرة سنة، وكان عليه- أي هذا الحزب وتوابعه- بل وعلى قياداته النفور من فكرة حجز حريات بعض المختلف معهم في الرأي، بعيد الظهور المفاجئ لهذا الحزب وعبر واجهته المحلية في سوريا، نتيجة ظروف معروفة بعيد الثورة السورية2011، وبموجب اتفاقات إقليمية باتت تظهر جلياً لمن لم يستقرئها جيداً، قبل سنوات فإن من استولوا على دفة قيادة المكان في المناطق الكردية في سوريا، من الكرد، وتحت يافطة شعارات خيالية، لجأوا إلى اعتقال أصحاب الرأي الذين انتقدوا سياساتهم المغامرة، ولم يذعنوا أمام تفردهم بقيادة مصير أهلهم، من كرد سوريا، من دون تاريخ نضالي مسبق لهم دفاعاً عن هؤلاء، ممن طالما اتخذوا شبابهم وبناتهم وقوداً لمخططهم، في تركيا، على نحو خاص، ومن ثم في إيران، أو العراق، وما شريط الفيديو الذي انتشر بسرعة البرق، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، عن السجن الأسود، بعيد احتلال عفرين من قبل تركيا، إلا دليل بيِّن على أن القائمين على هذا السجن قد ثأروا من سجاني الدول التي تتوزع عليها الخريطة الكردية، من خلال بناء سجن يجمع بين بشاعات كل السجون التي مرَّ بها مناضلوهم السياسيون الحقيقيون، وكان إنسانهم الكردي سجيناً سياسياً في مكانه، من قبل شقيق له، من خارج حدوده، في الوقت الذي لم يقصر في الوقوف إلى جانبه، إلى درجة تعرض وجوده للمحو، وهنا فإننا أمام مفارقة كبرى لا يمكن لها إلا أن تفسر إلا ضمن مفهوم تقمص شخصية الجلاد، لتكون الذات، في بعدها الآخر، الافتراضي، هي الضحية، وهي الجلاد…!؟
*عن جريدة الحياة8-4-2018