مهام ما بعد الاحتلال في عفرين

جان كورد
السياسيون الكورد يزعمون أنهم يناضلون “ضمن حدود الامكانات الواقعية”، ولكن في الواقع فإن لمعظمهم شطحات “صوفية” صارخة في عالم السياسة، ومن أخطرها تلك التي تجلب الهزائم أو الانتكاسات للشعب الذي يمارس هؤلاء السياسة باسمه أو بالنيابة عنه، فالنتائج التي كنا نتوقّع حدوثها منذ زمنٍ بعيد لما سيحدث في منطقة جبل الأكراد (مركزها عفرين) في حال غزوها من قبل الجيش التركي، مستفيداً من الأجواء العامة للمأساة السورية ومن التحالفات الاقليمية والدولية المتلاحقة المتناقضة، كانت كارثية بالنسبة لشعبنا بالتأكيد، انسانياً واقتصادياً واجتماعياً ووجودياً. وعلى الرغم من ذلك يدعو البعض من سكارى القوم إلى “لململة القوى الطليعية!” من جديد لتحطيم وتدمير ما تبقى من قدرات وطاقات هذه المنطقة التي نأت بنفسها سبع سنواتٍ طويلة عن شرور الحرب السورية وظلّت مأوىً ومسكناً لكل الوافدين من شتى أنحاء البلاد السورية، الذين كانوا يبحثون عن الأمن والاستقرار لعوائلهم. 
والآن، ماذا على الكورد الواعين المتألمين حقاً القيام به في ظل الاحتلال التركي الذي لا يبدو مثار اهتمامٍ لكثير من قوى الشعب السوري وحراكه السياسي –  الثقافي، بل يبدو وكأن (عفرين) واقعةٌ في دولةٍ أخرى، لم ولا ولن يدافع عن شعبها أحد، فاختفت بسرعة البرق تهديدات النظام بإسقاط الطائرات التركية، كما زال كل الحديث الممل عن “وحدة التراب الوطني” و”رفض الانفصال” و “الأكراد مكّون سوري أصيل!”، بل تم وضع سيطرات مسلحة على ممرات المنطقة صوب المدن السورية تأخذ من المواطنين الكورد ضريبة “دخول وخروج من وإلى كوردستان” بمبالغ طائلة لا يستطيع دفعها إلاّ الأثرياء، بل على العكس من دفاع النظام أو المعارضة عن هذا “الجزء الأصيل!” من الكيان السوري المنتهك المنهوب في وضح النهار، فإن الجيش السوري الحر ومعظم فصائل “الإسلام” قد لعبت في هذه الحرب على المنطقة الكوردية في شمال البلاد دور العساكر المشاة في الغزو التركية العنصرية كما في حرب “سفر برلك”، فتعرّض سكانها بالجملة إلى السلب والنهب والإذلال والمهانة،وكأن كل مواطني عفرين من القومية الكوردية “إرهابيون”، ليس في نظر “الإرهابيين” فحسب  بل  في نظر “الأحرار المعتدلين!” أيضاً. 
هناك العديد من الشعوب والأمم في التاريخ البعيد والجديد تعرّضت إلى ما تعرّض إليه شعبنا الكوردي، سواءً في العراق حيث قضت “حرب الأنفال” في عهد صدام والبعث على معالم الحياة الإنسانية أو في سوريا حيث الغزوة “العثمانية الجديدة” وما تبعها من تدمير وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، ومن تلك الشعوب: الشعب الصيني على أيدي اليابانيين الذين أبدوا وحشيةً تقشعر لها الأبدان لا مثيل لها في حربهم الاستعمارية،وعلى أيدي البريطانيين أيضاً،كما تم تدمير البنية التحتية فيما بعد لليابان ذاتها أثناء الحرب العالمية الثانية وحلّت بها كارثة القصف النووي لمدينتي هيروشيما وناغازاكي، مثلما تعرّضت المدن الألمانية للدمار والنهب والسلب على أثر اقتحام الجيش السوفييتي لها في نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد تعرّض مدينة ستالينغراد الروسية للحرب العدوانية النازية عليها، ناهيك عن الحديث عما أصاب شعوباً عديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا وأوروبا عبر التاريخ من ويلاتٍ سيطول الحديث إن تطرّقنا إليها الآن… لقد استلم الهونغ كونغيون والسنغافوريون بلادهم قاعاً صفصفا من أيدي الغزاة والمحتلين، فماذا فعلت هذه الشعوب حتى نهضت من تحت الركام ووقفت على الأقدام وأصبحت مع الأيام من أشد دول العالم تحضّراً وقوةً مالية واقتصادية ينحني لها الغزاة السابقون بالإجلال والاحترام؟ 
قبل كل شيء، اعترف قادة هذه البلدان والمدن والكانتونات المدمرة المنهوبة بهزيمة شعوبهم وسياسات زعاماتهم، فثمة من انتحر شامخاً أبياً أو وقف أمام القضاء ليعترف بذنبه وجريمته كالأبطال، ومنهم من نالته أيدي العقاب والجزاء على ما ارتكبه من أخطاء جسيمة وجرائم كبيرة وتعاملٍ سيءٍ مع شعوبهم أو لارتباطاته الخيانية بالأعداء. وعملت القيادات الجديدة على فهم ما جرى لشعوبهم من خلال إدراكٍ صحيح للواقع الجديد، فمن أهم الأمور هو التحرّك الواقعي ضمن شروط وظروف “الاحتلال” لا الركض وراء أوهام أو طموحاتٍ سياسيةٍ جديدة أو القبول بالتبعية لأطراف تملي على الزعامات ما لا خير فيه للشعب المنكوب المنهوب، فالتحرّك حسب احداثيات الواقع الذي أفرزه الاحتلال هو الطريق الأمثل لمن فقد معظم قواه السياسية والقتالية والاقتصادية مثل شعبنا في عفرين ثم يأتي العمل المشترك لاعادة البناء والتعمير كشعبٍ واحد، محافظٍ على وجوده القومي و (لغته) التي بدونها نفقد صلاتنا القومية وعاداتنا وتقاليدنا، بل التحرّك والعمل كعائلةٍ واحدة، فلقد بنت نساء الألمان مدناً وقرى وجسوراً وسككاً حديدية دون مقابل وكأن الذي تهدّم ممتلكات العائلة، وهذا الشعور بوحدة المصير والترابط الاجتماعي والايمان بضرورة العمل معاً يجب أن يشمل الجميع، وهذا يتحقق من خلال التغيير الجذري في التربية الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية برمتها، فلا نجاح في شؤون الحياة العامة دون تربية صحيحة تضع نصب أعينها إنقاذ الشعب والوطن، فالشعارات والبرامج السياسية للأحزاب لا تفي بالغرض وإنما البدء بتربية عصرية بناءة وجادة للخروج من الأزمة العامة. وهذا يجب أن يترافق مع حث المواطنين على إيلاء أشد الاهتمام بتطوير القدرات الاقتصادية والمالية لكل مواطن عن طريق المساعدة الذاتية ضمن العوائل، في كل مكان بشكلٍ تعاوني شامل، فإن شعب عفرين عائلة واحدة، والذين يتصرفون على العكس من ذلك يجب محاصرتهم والتضييق عليهم اقتصادياً لأنهم يتصرفون بشكل خاطىء ضمن العائلة الكوردية. على الواعين من شعبنا مساعدة المواطنين على فهم واقعهم الجديد وتعليمهم كيف يبنون عشهم الاقتصادي بأنفسهم والتصرّف كمتحدٍ اجتماعي متماسك ونشر الوعي الاقتصادي بينهم.. على الكوردي الذي يملك اليوم 100 ليرة سورية أو تركية فقط أن يثبت لمجتمعه بتحقيقه في وقتٍ قصير وبالطرق المشروعة قانونياً وعقيدياً واجتماعياً، لا عن طريق الإجرام والاختلاس والفساد،أضعاف ما كان يملك، وهذا يتطلب الكف عن المهاترات السياسية والتسكّع بذريعة أن لا خروج من المأزق أو “ليس بالإمكان أحسن مما كان” والنزول من الأبراج الحزبية لتعليم المواطنين كيف يبنون ذاتهم الاقتصادية رغم كل الظروف والتحديات، فلن تصعد عفرين من بين الركام دون تفكيرٍ اقتصادي تعاوني واجتماعي حديث ودون تربيةٍ جديدة، في الأسرة والمدرسة ودور العبادة وصالات الرياضة، أي تربية بناء الوطن وتحويله إلى هونغ كونغ أو ماليزيا أو سنغابور في شمال سوريا / جنوب تركيا، إذ لايهمنا أن ترفرف أعلام اليابان أو بريطانيا أو الصين أو أمريكا أو تركيا أو دمشق الجريحة على سراي عفرين ومدارسها،أو عودة فرنسا للحكم في سوريا، وإنما يهمنا أن نبني أنفسنا كشعب كوردي، حيث لا يعترف أحدٌ بحقنا في الحرية والحياة، ومن يساعدنا فإنما يضع أولاً مصالحه القومية أو الوطنية نصب عينيه، فهكذا كانت الحياة الانسانية وستبقى هكذا عبر العصور. 
إن الانجازات العمرانية  التي حققها اقليم جنوب كوردستان منذ سقوط “الصنم” في بغداد وحتى قبل سنواتٍ قلائل شاهدة على أن الشعوب تنهض بسرعة من تحت الأنقاض إن توفرت لها القيادة الناجحة، فالسياسة ليست كل شيء، بل هي لا شيء من دون الاقتصاد، فلنبني (عفرين) اقتصادياً، كما بنى السنغابوريون سنغابور والهونغ كونغيون والمالايزيون والإماراتيون العرب بلادهم فصارت تغري البلدان والشعوب الأخرى بالتعاون والتواصل والصداقة معها والاعتراف بها. وليكن شعارنا بعد الآن:  
“قليلاٌ من الكلام السياسي وكثيراً من النشاط الاقتصادي”. 
kurdaxi@live.com 
‏31‏ آذار‏، 2018

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…