د. ولات ح محمد
هل ثمة تشابه بين ما حصل في منتصف أكتوبر تشرين الأول الماضي في كركوك وبين ما حصل في عفرين قبل أسبوعين؟. القاسم المشترك الأوضح يتمثل في أمرين: الأول أن أحد طرفي الصراع في الحالتين كورديٌ سَمَحَ حليفه الأكبر (أمريكا في حالة كركوك وروسيا وأمريكا في حالة عفرين) لطرف غير كوردي بالهجوم عليه في لحظة حاسمة وتركَه فريسة سهلة للطرف المهاجم. الأمر الثاني هو أن الحليف (أمريكا وروسيا) الذي أعطى الضوء الأصفر بالهجوم كان يبدي تحالفاً وصداقة ووداً حتى قبل الواقعة بأيام، ولذلك بدا في موقفه خائناً لحليفه الكوردي.
على الصعيد الداخلي تشترك التجربتان في كونهما تعبران عن حالة التفكك بين مكونات الحركة السياسية الكوردية حتى وهي في أصعب ظروفها؛ ففي الوقت الذي يقوم فيه حليف ببيع الكوردي في أحد بازاراته يكون الوضع الكوردي الداخلي مفككاً وهشاً ومليئاً بالتناقضات والخلافات والاحترابات. وربما يكون ذلك الوضع الداخلي الهش أحد أسباب استهانة الآخر بالكوردي وتخليه عنه بسهولة دون أن يخشى أية ردة فعل منه إزاء “خيانته” له. مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن حالة التفكك تلك كانت خاصة بالأحزاب السياسية إلى وقت قريب وبدأت آثارها مع الأسف تنتقل إلى الشارع.
في حالة كركوك ظهر الانقسام الكوردي – على مستوى الأحزاب – في مسألة الاستفتاء الذي سبق واقعة كركوك بثلاثة أسابيع فقط (علماً أن تقارب الأحزاب نسبياً كان في أفضل حالاته)؛ فعلى الرغم من ذهاب جميع الأحزاب وجماهيرها إلى صناديق الاقتراع والمشاركة بفعالية في عملية التصويت بـ”نعم” إلا أن كثيراً منها لم تشارك في حملات الدعاية والترويج وكأن الأمر لا يعنيها، مع التذكير بأن بعض أجنحتها كانت ضد إجراء الاستفتاء وبعضها ذهبت منفردة من وراء الحكومة إلى بغداد. أما في حالة عفرين فإن غياب التجانس أو التقارب أكثر سوءاً ووضوحاً بين حزب الاتحاد الديمقراطي وبين بقية الأحزاب الكوردية؛ وهو ما استغلته الحكومة التركية وحلفاؤها من الفصائل السورية المسلحة أفضل استغلال في مسألة الهجوم على عفرين واحتلالها.
نتيجة لذلك كان من السهل على قاسم سليماني والعبادي في حالة كركوك أن ينجحا في شراء سكوت فئة قليلة لتقوم بتسليم المدينة للجيش العراقي وميليشيات الحشد. أما في حالة عفرين فإن هذا الانقسام جعل من السهل على أردوغان اتهام حزب الاتحاد الديمقراطي (القائم على الإدارة الذاتية) بالإرهاب وبالارتباط بحزب العمال الكوردستاني وبالسعي للانفصال عن سوريا، وكان من السهل عليه أن يطالب حلفاءه وأصدقاءه من السوريين بمساعدته أو على الأقل بالسكوت عن قيامه باحتلال عفرين بحجة حفاظه على أمنه القومي وعلى وحدة الأراضي السورية. ولو كان البيت الداخلي في حالته المثالية لما تجرأت تلك الفئة على بيع كركوك ولكان عقابها شديداً لو فعلت ذلك، ولما كان لأردوغان أن يقنع كل العالم والسوريين بأن كل الكورد في غرب كوردستان إرهابيون وانفصاليون ومرتبطون بحزب العمال الكوردستاني، ولما تمكن من احتلال عفرين بتلك السهولة.
في كركوك تعاونت تركيا مع إيران وسمحت لها بدخول حلفائها من ميليشيات الحشد إلى كركوك (مع مرارة ذلك بالنسبة إليها) وانتزاعها من الكورد لأن مصلحة الطرفين اقتضت إفشال الاستفتاء ومنع قيام دولة كوردية. في عفرين رد الإيرانيون الجميل لتركيا بالسماح لها بدخول عفرين (مع مرارة ذلك بالنسبة إليها) لمنع قيام أي كيان كوردي هناك من جهة ولتقليص النفوذ الأمريكي الحليف الرئيس للكورد في سوريا وفي العراق من جهة ثانية.
أمريكا بسبب حسابات خاصة بها سمحت للعبادي وجيشه وميليشيات إيران في العراق بدخول كركوك وانتزاعها من الكورد ولكنها لم تتخل عن الكورد بوصفهم الحليف الأوثق في العراق منذ ربع قرن. في عفرين فعلت واشنطن الأمر ذاته مع حزب الاتحاد الديمقراطي فسمحت لتركيا وفصائل مما يسمى الجيش الحر باحتلال المدينة، ولكنها لم تتخل عنهم في باقي مناطق الإدارة الذاتية شرق الفرات حتى الآن. في الحالتين أمريكا حريصة على علاقتها بالكورد ليس من أجلهم بل لأن مصالحها في كل من العراق وسوريا تقتضي ذلك.
كان قائد السياسة الخارجية الأمريكية في الحالتين ريكس تيللرسون الذي قال إن ما يجري بين أربيل وبغداد “شأن عراقي داخلي” معبراً بذلك عن موافقته على هجوم الجيش العراقي ومليشيات الحشد الشعبي على كركوك. أما بخصوص عفرين فقد عبر تيللرسون عن تأييده للهجوم التركي بقوله إنه “يتفهم مخاوف تركيا المشروعة على أمنها القومي” وإنه يعمل معها على كيفية إقامة منطقة آمنة على حدودها.
المؤسف المبكي في كل من كركوك وعفرين أن قسماً من الكورد (مع اختلاف الأسباب في الحالتين) فرح سراً أو علانية بخسارة مدينة كوردستانية وسقوطها بيد الخصم أو العدو بعد تحريرها بدماء شباب وشابات من الكورد (الكورد يدفعون من دمائهم وأرواحهم عندما يحررون مدنهم، ثم يدفعون منها ثانية عندما يخسرونها)، وكأن المسألة انتقلت من كونها صراعاً بين الكورد وسالبي حقوقهم من الأنظمة المعروفة إلى لعبة بين خصمين كورديين ينتظر أحدهما سقوط الآخر في أي موقعٍ كان ظناً منه أن سقوط الآخر هو انتصار له.
هناك عاملان مشتركان لعبا الدور الأهم في خسارة المدينتين: التفكك الكوردي الداخلي وبازار الحلفاء. إذا كان العامل الثاني بات معروفاً ومكرراً في تاريخ الكورد، وهو ما دفعهم للاقتناع بمقولة أحد المؤرخين “لا أصدقاء للكورد سوى الجبال”، فإن على الكوردي أن يلتفت إلى عامله الداخلي وترتيب بيته أولاً إذا أراد أن يوقف الآخرون بازاراتهم على حساب دمه وحقه في كل مرة، لأن العامل الثاني في معظمه هو نتيجة الأول. وما دام الأول على حاله سيبقى الثاني كما هو وسيبقى الكوردي يقف على أطلاله يلعن حظه وحلفاءه دون أن يدرك أن سقوطه يأتي من داخله أولاً وثانياً وثالثاً.. وعاشراً.