رياض علي
لم نفاجأ كسوريين بتسريب أسماء مايزيد عن مليون ونصف المليون سوري كمطلوبين لنظام الأسد، عبر أذرعه الأمنية المختلفة، ذات التسميات المتعددة والأهداف والصلاحيات المتشابهة بل المتطابقة، والمتمثلة في محاولة إسكات الشعب السوري وإركاعه للسلطة الحاكمة، ومراقبة جميع حركاته وسكناته، من خلال التمتع بصلاحياتٍ فالتة من عقالها وخارجة عن أي رقابة قضائية أو غير قضائية، ولا نبالغ ان قلنا بان الأجهزة الأمنية في سورية، هي السلطة الاولى في الدولة وتعلو على السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإحترفت مهنة ترويع سكينة المواطن وبث الرعب في نفسه بدلاً من الأمن والأمان.
ويبدو ان التسريب المقصود للأسماء المطلوبة يهدف إلى رغبة النظام في إكمال مخططه الرامي إلى تغيير التركيبة السكانية لسورية، إذ انه وبعد إتباع سياسة التهجير القسري، الداخلي والخارجي، للكثير من السوريين، والذين تجاوزوا حسب تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية السبعة ملايين سوري، وبعد مئات الآلاف من حالات القتل خارج القضاء، والاختفاء القسري للمفقودين، لجأ إلى السياسة القديمة الجديدة المتمثلة بإبتكار حالة جديدة لدفع السوريين المعارضين لسياساته القمعية، ولا سيما أولئك الذين لجأوا إلى دول الجوار ودول اللجوء، إلى التفكير جديا في الإستقرار في تلك الدول وعدم العودة إلى ديارهم، وذلك من خلال ترهيبهم بأن الاعتقال في غياهب السجون هو مصيرهم المنتظر، وبالتالي فان النظام السوري وبتدخل سافر من حلفائه سيُبقي فقط على السوريين “الجيدين” حسب منظوره الإقصائي، وسيُبعد عنها “غير الجيدين” كي تصبح أرضاً يحيا عليها فقط أولئك الذين لا يجيدون سوى كلمة نعم، ولا يتقنون سوى فن التملق للسلطة الحاكمة، وتتقاطع مصالحهم مع سلطة الفساد والإفساد.
وهذا التسريب يتوافق أيضاً مع سياسة الهُدَنْ التي تأتي بعد إنهاك قاطني مناطق معينة لدفعهم إلى القبول بالنزوح والهجرة، نتيجة ضغوط مروعة من التجويع وإطباق الحصار والقصف الجوي والمدفعي، واللافت للإنتباه إن كل تلك الهدن تمت وتتم في المناطق التي تقع ضمن خارطة “سورية المفيدة” التي تم الترويج لها مؤخراً، وتشمل العاصمة دمشق ومحيطها وصولا للحدود اللبنانية وحمص والشريط الساحلي، وهذا المشروع يهدف بطبيعة الحال الى تقسيم سورية وتفتيتها، كما أن نظام الأسد يهدف الى إعادة الهندسة الاجتماعية لسورية “المفيدة” وليس من الضروري أن يكون القاطنون الجدد سوريون بالمجمل، بل صار الإحتمال أكبر من أي وقت مضى بتوطين عائلات تتبع لميليشيات حزب الله وغيرها من الميليشيات الطائفية، القادمة من ايران والعراق وأفغانستان، وتسليم تلك المناطق لهم، سراً وعلانيةً، بحجج واهية ك “حماية المقدسات و”مكافحة الإرهاب”، وتطبيقا لمقولة بشار الأسد بأن سورية ليست لمن يحمل جنسيتها بل لمن يدافع عنها.
إذ أن تسريب الأسماء يمكن أن يتبعه منع أصحابها من الحصول على جواز السفر السوري، ومنعهم من تجديد جوازاتهم، وقد حصل هذا الأمر مع بعض السوريين المقيمين خارج سورية، وكذلك المقيمين داخلها، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فالبعض منهم لم يتمكنوا من الحصول على جواز السفر بحجة أنهم لم يحصلوا على الموافقة الأمنية، وبعضهم الآخر حصلوا عليه بعد أن دفعوا أموالاً طائلة كرشاوى للأجهزة الأمنية السورية، من خلال السماسرة الذين راجت تجارتهم الدنيئة كنتيجة حتمية للحرب الدموية التي حصدت سورية والسوريين، ولأن جواز السفر يُعبِّر عن الوجود القانوني لحامله وبدونه لايعتبر موجوداً إلا جسداً، فهذا سيدفع السوريين الذين لايمكنهم الحصول عليه إلى السعي وراء الحصول على جنسية أي دولة أخرى أو أي وثيقة تعترف بوجودهم القانوني، وتبعد عنهم شبح العدمية أو اللاوجود، ولايغرب عن بالنا أن الشخص وكونه مطلوباً يعني أنه صار من الصعب عليه إن لم يكن من المستحيل، أن يفكر في تسجيل أولاده الذين وُلِدوا خلال هذه السنوات في قيوده الأصلية في سورية، وهذا سيتبعه حتماً حرمانهم من جنسيتهم السورية.
ثمَّ وبغض النظر عن الذين تم قتلهم خلال الحرب السورية، سواء في العمليات الحربية أو في ظلمات سجون الأسد تعذيباً أو إعداماً، وبغض النظر عن السوريين المختفين قسرياً في مراكز الإعتقال السرية والعلنية والذين يتجاوز عددهم الملايين، هل يعقل أن يكون أكثر من مليون ونصف المليون سوري مطلوبين للسلطات الأمنية؟ مع ان عدد سكان سورية قبل 2011 كان يبلغ حوالي الثلاث وعشرون مليوناً، أي أكثر من 10% من السكان!!! والأكثر لفتاً للانتباه هو أن أغلب المطلوبين هم من حملة الشهادات العلمية الذين لم ينخرطوا في الأعمال القتالية ولم يحملوا سلاحاً طوال السنوات السبع الماضية.
وإن كان أكثر من نصف الشعب السوري بين قتيل ومعتقل ومختفٍ وفاقد للهوية ونازح ولاجئ ومطلوب، فهذا يعني بأنه من غير المنطقي الحديث عن السيادة السورية، ولا عن شرعية نظام الأسد الذي فقد السلطة الفعلية والقانونية على أكثر من نصف سورية بأرضها وناسها، ومن غير المنطقي أيضاً الحديث عن انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، إن كان هذا القدِرْ من السوريين لا يمكنهم الترشح ولا الاقتراب من صناديق الاقتراع (مادامت أسماؤهم على لائحة المطلوبين)، ناهيك عن الذين لايرون أي جدوى من تلك الانتخابات، لأنها وإن تمت، لن تكون سوى مسرحية هزلية بطلها النظام وممثلوها مراقبو الأمم المتحدة وكومبارسها، بل ضحيتها هو الشعب السوري الذي ذرف الكثير من الدماء والدموع في هذه الحرب المجنونة، التي تبين لاحقاً أنه لا ناقة لهم فيها ولاجمل، بل هي حرب الدول الكبار لكن للأسف مسرحها أرض سورية وجنودها أو بالأحرى ضحاياها سوريون.
بات الأمر خطيرا بل كارثياً إن لم يدرك السوريين خطورة مخططات النظام وحلفائه الرامية إلى تمزيق سورية وتفتيتها، وإن لم تكن ثمة جهود جدية تهدف إلى تجنب إعادة تعويم هذا النظام وإعادة إنتاجه من جديد، وأول تلك الجهود تكمن في ضرورة توحيد جهود السوريين بكل مكوناتهم ومشاربهم، لمواجهة الكارثة التي أصبحت قريبة التحقق والإنجاز، إن لم نتمكن من التصدي لها بقلب رجل واحد،بعيداً عن الأجندات الإقليمية والدولية.