تركيا وإيديولوجيتها الرسمية

 اسماعيل بيشكجي 
تستخدم الدولة ” التركية ” أدواتها الإيديولوجية كافة، بغية فرض إيديولوجيتها الرسمية على الناس جميعاً، حيث إنها تريد تفعيل مستلزمات هذه الإيديولوجيا، ولهذا فإنها تستغل إمكاناتها الاقتصادية، السياسية والاجتماعية جميعاً لهذا الغرض. وتتحكم من أجل ذلك بوسائل الإعلام مثل الصحافة، الإذاعة والتلفزيون. وباستخدام الميكانيزمات ” القوى ” الاقتصادية، الإدارية والسياسية، تسد الطريق في وجه الإيديولوجيات الأخرى، للحيلولة دون وقوفها ضد الإيديولوجيا الرسمية، وعدم انتشارها، وهي تستخدم في هذا السياق حتى مؤسسات التعليم أيضاً، وضمناً توجهّ أنشطة ومن ثم فعاليات الأحزاب السياسية، النقابات، والجمعيات بالمقابل في نطاق الإيديولوجيا الرسمية، وهي تراهن على ذلك لإبقاء العملية فعالة.
وكما أظهرنا سالفاً، فإن الدولة تضبط هذه العملية مجدداً عن طريق الدستور  وقوانينها الأخرى، وتحاول ربط المؤسسات الثقافية مثل الفن، الأدب والمسرح بالإيديولوجيا الرسمية، وكذلك فإن تسيّر الأعمال والأنشطة العائدة إلى المؤسسات الدينية وربطها بمتطلبات الإيديولوجيا الرسمية.
إن الحكومة التي تتميز بدور كبير عن طريق اعتماد الإيديولوجيا الرسمية ونشرها، تمهد الطريق أمام الوظائف العامة والأفراد والمؤسسات التي تدافع عن الإيديولوجيا الرسمية وتتجاوب معها، وتفتح أمامها أبواب الدولة، وتقوّيها.
وبالمقابل، فإن سيستام الاعتماد المصرفي، وكل ما يتعلق بالتعاملات المصرفية وتحويلاتها، بغية تقويتها في المجتمع، يدخل في هذا النطاق.
إلى جانب أنها تؤكد قوتها من خلال أسس جديدة، سعياً منها إلى احتواء الناس بالإيديولوجيا الرسمية. هذه القوى بدورها تسيطر على الإيديولوجيا الرسمية في المجتمع لتكون أكثر نفوذاً وانتشاراً، وهي لا تفتح الطريق للإيديولوجيات الأخرى، خاصة تلك الإيديولوجيات التي تعارض الإيديولوجيا الرسمية، وتحاول التحكم في مختلف الطرق، لئلا تقوى إزاء الإيديولوجيا الرسمية، حيث إنها تقدّم معارفها ومقترحاتها اللازمة لمؤسساتها.
ومع هذه النقاط جميعاً، فإن الممكن هو أنه في كل الأحيان، نجد أن الأفكار والآراء المعارضة للإيديولوجيا الرسمية، وهي تظهر وتلفت النظر، بالرغم من أن الدولة تستخدم كل قواها ضدها، فإنها تعجز عن سد الطريق أمام واقعة الأفكار المعارضة. وفي وضع كهذا، فإن الدولة تلجأ إلى استخدام وسائل تهديد، في مواجهة الأفكار الجديدة، وتحاربها بالطريقة هذه، وكذلك فإنه يجري توظيف كل من المقرات” الرسمية “، السجون، المحاكم، وحدات الشرطة، وحدات الجيش، وباختصار، كل الموظفين والحكومة، أو التنظيمات القانونية، الإدارية والجنائية في الزمان والمكان لهذا السبب، وبالمقابل، فإنها تسعى جاهدة إلى الحيلولة دون تنامي الأفكار الاجتماعية، لئلا تتقدم الأفكار الجديدة، ولئلا يخرج المجتمع عن سيطرتها.
وعندما ترى الدولة أن الأدوات الإيديولوجية لا تكفيها، حينها تعمد إلى استخدام وسائل التهديد، بصورة فعالة ومؤثرة. وهنا فإن الدولة لا تستطيع سد الطريق أمام الإيديولوجيات المعارضة دون استخدام وسائل التهديد، ونستطيع اعتبار هذا الإجراء المرحلةَ الثالثة، بغية تفعيل الإيديولوجيا الرسمية مكاناً وزماناً. 
الصحيح، هو أن الدولة تستخدم وسائل التهديد الخاصة بها دائماً، إنما تزيد جرعة القوة/ العنف فيها في هذه المرحلة، وذلك في مستوى عال ٍ لها، حيث تتوحد الإجراءات الاستعمارية والدكتاتورية الفاشية في الحالة هذه* …
الترجمة عن الكردية: ابراهيم محمود
*-نقلاً عن كتاب اسماعيل بيشكجي: التوطين القسري للكرد، الترجمة عن التركية: عمر دوران، منشورات مؤسسة اسماعيل بيشكجي، ستانبول، 2017، صص45-47.
ملاحظة: لقد حاولت ترجمة مقطع من كتاب بيشكجي المهم هذا، للتذكير بما يجري راهناً في الإعلام التركي، وعلى مستوى الصحافة التركية، وحتى في الأوساط الثقافية والجامعية التركية في التعامل مع الغزو التركي السافر لعفرين، وتأليب الآخرين ضد الكرد باعتبارهم ارهابيين، حتى في أوربا، وليس جماعة حزبية معينة” لنذكّر بمقولة: الفتح/ الجهاد، والصور الحية والملتقطة عن الممارسات المريعة التي يرتكبها الجيش التركي، وعناصر مأجورة مما يُسمى بـ” الجيش الحر: مرتالا فرات ” ضد الناس العزّل، وتمثيلها في جثث الضحايا، والسعي إلى التغيير الديموغرافي للمنطقة، كما هو دأب السياسة الرسمية للحكومات التركية المتعاقبة.
وللعلم، فإن هذا الكتاب صدر في طبعته الأولى سنة 1977، وهو يعتبَر الجزء الأول في سلسلة: منهج العلم، وكيفية اصطناعه في تركيا، حيث تبدأ به، وتتوقف عند الجزء السابع: كردستان مستعمَرة دولية، 1991، أي كيفية تزييف العلم ومقولاته لصالح الإيديولوجيا الرسمية، وقريباً سوف تبصر ترجمتي لكتاب: منهج العلم، لبيشكجي،  النور من الكردية إلى العربية، ومن منشورات مركز بيشكجي للدراسات ألإنسانية، جامعة دهوك، حيث أعمل فيه منذ سنوات.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   في أروقة السياسة الدولية، حيث تتراقص المبادئ على إيقاع المصالح، تبدو القضية الكوردية كوتر مشدود بين أصابع القوى الكبرى، كلٌ يعزف عليه لحنًا يخدم نوتته الخاصة، ثم يطويه في غمد النسيان حين تنقضي الحاجة. إنها قضية أمة سُلب منها حقها في التشكل، ليس لأنها تفتقر إلى مقومات الهوية، بل لأن الخرائط التي رسمها المنتصرون بعد الحروب…

تزامناً مع حلول الذكرى الـ(٣٤)، للانتفاضة في كردستان العراق، صدر اليوم المصادف (٨/٣/٢٠٢٥)، كراس (في أدبيات حركة الكردايتي: مظلة الحركة التحررية لشعب كردستان)، وهو من تأليف الكاتب القدير الإعلامي البارز الأستاذ (ستران عبدالله)، الذي سعدت بترجمته من الكردية (السورانية)، ويتناول الكراس موضوع التشتت والشقاق بين صفوف الحركة الكردية، وضرورة وجود مظلة كردستانية تضم أطرافها تحت ظلها، أنه بالفعل (كراس صغير…

علي شمدين في خضم مساعي الحريصين والغيورين على مستقبل الكرد في سوريا الجديدة، ودعوتهم المستمرة لأطراف الحركة الكردية في سوريا للتوافق وتشكيل وفد مشترك يمثل الجميع من دون إقصاء من أجل استثمار هذه الفرصة التاريخية التي توفرت للكرد على إثر هذه المتغيرات الجذرية التي تعصف بالمنطقة عموماً وسوريا خصوصاً، في خضم ذلك هناك من يدفع بالحوارات الكردية- الكردية،…

درويش محما جنكيز تشاندار، المستشار الخاص للسياسة الخارجية لدى الرئيس الأسبق توركوت أوزال، تطرق في كتابه “قطار الرافدين السريع” إلى ضعف عبد الله أوجلان وإطلالته المخزية وهو يعرض خدماته لخاطفيه على متن الطائرة التركية التي أقلته من كينيا إلى السجون التركية، كما كتب عن الحالة اليائسة لأوجلان وخنوعه بعد اعتقاله وسجنه، وتأثير ذلك على مصداقية الرجل ومكانته، الأمر الذي…