د. ولات ح محمد
رأى من أسموا أنفسهم “المعارضة السورية” أن يضعوا بيضهم منذ البداية في سلال الدول والحكومات القريبة والبعيدة. ثم شيئاً فشيئاً ومع مرور الزمن وحلول اليأس انفضَّ أصحاب السلال من حولهم الواحد تلو الآخر حتى بقي أردوغان وحكومته السلة الوحيدة تقريباً أمام أولئك ليحفظوا فيها ما تبقى لهم من بيض وليحافظوا عنده على وجودهم وعلى ما تبقى لهم من ماء وجه.
في المقابل وبعد أن فشل في تحقيق كل أهدافه سورياً، وحرصاً منه على عدم إفساح المجال أمام أية خطوة كوردية استغل أردوغان وضع المعارضة آنف الذكر (وهو العارف بأنها باتت مسلوبة الإرادة وبأن أمرها قد صار في يده تماماً) لتوظيفها في تحقيق أهدافه التي فشل فيها سابقاً،
فجعل من تلك المعارضة أولاً موضوعاً للمساومة مع الروس وقام ببيعها بداية في حلب مقابل رقعة أرض سورية تمكنه من أن يثبت له قدماً على خارطتها سياسياً وجغرافياً بداية من جرابلس، وعمل ثانياً على تشغيل بعض فصائلها المسلحة كعناصر تحت الطلب لخوض معاركه الخاصة التي تخدم أهدافه هو على الأرض السورية كما يحصل الآن في عفرين، سواء أكانت الجيوسياسية منها أم الانتخابية.
إزاء هذه الحالة المزرية والمهينة لم يعترض أحد منهم على تصرفات أردوغان، وكأنهم تحولوا من لاجئين سياسيين إلى رهائن مسلوبي الإرادة، وهم يرونه كيف يتخلى عنهم ويبيعهم في بازاراته الخاصة مقابل مكاسب تفيد دولته وأمنه القومي وحساباته الانتخابية بعيداً من مصلحة تلك المعارضة والشعب السوري؛ فقد باعهم في حلب وبلغت صرخاتهم عنان السماء وهم يناشدون العالم لوقف القصف عليها، بينما لم يجرؤ واحد منهم على القول إن ذلك ما كان ليتم لولا إعطاء أردوغان الضوء الأخضر لروسيا بذلك مقابل حصوله على الضوء الأخضر لدخول جرابلس. ثم باعهم في أماكن أخرى وسمح بنقلهم بالحافلات الخضر وجمعهم في إدلب ليصور لهم نفسه بأنه يحميهم ويرعاهم وأنه لولاه لباتوا في خبر كان وصار وأصبح وأضحى. المضحك أنهم يتحدثون عن إنقاذ أردوغان لهم من الموت ثم حمايتهم ولا يلتفتون إلى بيعه لهم.
الفصل الأخير من مسرحية السلطان ورهائنه أو أتباعه يتم اليوم في الغوطة الشرقية، إذ راحوا كالعادة يصرخون ويستنجدون لإنقاذ الغوطة وهم جالسون في كنفه دون أن يجرؤ واحد منهم على وضع إصبعه في عيون أردوغان الساكت على العملية على الرغم من أن من حقه ومن واجبه الاعتراض لأن المنطقة مشمولة بمناطق خفض التصعيد حسب اتفاقية آستانا التي ضبطها مع كل من إيران وروسيا على إيقاع مصالحه هو متاجراً كالعادة بورقة المعارضة التي يرعاها في مرهنه. السلطان لا يعترض على الغوطة ولن يفعل لأنها مقابل سماح روسيا له بغزوه عفرين. أما الأتباع فإنهم لم يكتفوا بقبول المتاجرة بهم وبيعهم، بل مكافأة لسيدهم وولي نعمتهم على خدماته الباهرة قبلوا أن يكونوا له جنوداً لغزو بلادهم حتى يتمكن سلطانهم من الدخول إلى المناطق التي لم يستطع الدخول إليها نتيجة بيعه إياهم في المرات السابقة.
حسب الصور التي ينشرونها هم الآن سعداء بغزوهم عفرين مع السلطان وقتل أهلها وتشريدهم وسرقتهم دون أن يعبأوا بكونها نتيجة بازار بوتيني أردوغاني مقابل الغوطة مادام السلطان راضياً عنهم وسعيداً. وبذلك تحولوا من أناس ادّعوا أنهم خرجوا من أجل كرامة الشعب السوري وحريته إلى مسلحين يعتدون على السوريين ويهجرونهم من بيوتهم ويسرقون ممتلكاتهم ليُدخلوا أجنبياً إلى أراضيهم.
أن تكون معارضاً وتستنجد بأي طرف لإنقاذك إذا وقع عليك ظلم فهذا أمر مقدر ومفهوم. أما أن تحمل بندقية أجنبية وتأتي مع صاحبها من خارج الحدود إلى أرضك لتعينه على ضرب ابن بلدك وشريك لك في تلك الأرض وتقتل أطفاله وتدمر بيوته لأن الأجنبي قد عطّل فكرك وأعمى قلبك لدرجة جعلك فيها ترفع علم بلاده وليس علم بلادك على أرضك التي تدعي أنها لك وأنك جئت تحررها، فذاك مما لا يمكن إيجاد تسمية له بأي حال.
المفارقة أن أولئك وهم يغزون بلادهم في مهمتهم المقدسة إما مقتولون مرميون على مزابل عفرين وضواحيها وقراها وإما قاتلون لأطفالها ونسائها وسارقون لممتلكاتهم وأرزاقهم. وفي الحالتين هم فقط يمهدون الطريق للغازي أردوغان باشا لاحتلال أراضٍ من بلدهم، أراضٍ يريدون “تحريرها” من أهلها وتسليمها إلى من باعهم ويبيعهم وتسبب في إبادتهم وفشلهم.
في النتيجة المعارضة التي ادعت أنها خرجت لنشر قيم الحرية والديمقراطية في البلاد بات همُّها الوحيد إرضاء أردوغان من خلال مهاجمة الكورد في قراهم وقصباتهم وقتل أكبر عدد ممكن من أهاليها أو إهانتهم، وباتوا يرون في استدعاء القوات الكوردية لقوات النظام (وهم سوريون) للدفاع عن عفرين ضد الغزو الخارجي خيانة، بينما يرون في حملهم لبندقية الجيش التركي (الأجنبي) ومساعدته لاحتلال مدينة سورية عملاً وطنياً.
المشكلة أن من يفعل ذلك ليست فقط فصائل مسلحة وإنما أيضاً ائتلاف وطني سياسي لا يرى في دخول الجيش التركي إلى أراضي بلده مشكلة، بينما يرى في إدارة تديرها مجموعة كوردية مشكلة كبرى وإرهاباً يجب القضاء عليه، دون أن يضع في حسابه الاختلاف الجوهري بين الرؤية التركية إلى تلك الإدارة وبين الرؤية السورية المفترضة لها. الائتلاف الذي فشل في كل شيء يريد أن ينجح في أي شيء حتى ولو كان مساعدة أردوغان على احتلال جزء من بلده ليعلن انتصاراً وطنياً من نوع آخر.
إنها حالة فانتازيا دفعت الكاتب في صحيفة الحياة الأستاذ حازم الأمين في مقال له قبل أيام لدعوة الائتلاف السوري إلى الذهاب إلى دمشق وإعلان الاستسلام بدلاً من البقاء في أنقرة تابعاً مهاناً شاهداً على قتل السوريين، إذ كتب: “أنْ يذهب وفد الائتلاف السوري إلى دمشق بدل أن يذهب إلى محيط عفرين وأن يُعلن من هناك استسلامه، ربما كان خطوة مفيدة، فهذا قد يفضي إلى عدد أقل من القتلى، ناهيك عن أنه يُحرر الائتلاف من وظيفة المستتبع المُهان. ففي دمشق ستكون السجون في انتظاره، وربما المشانق، أما في أنقرة، فهو جزء من تحالف جرى قتل الناس في الغوطة تحت رعايته وقبوله، وهو هناك في أنقرة ينتظر نتائج هذا الموت ومردوده على سيده الذي أفسح للنظام في عفرين وفي الغوطة.
يجب الإسراع في إعلان الاستسلام، فقبل سنة كان الاعتراف بالهزيمة ضرورة، أما اليوم فلا شيء أقل من الاستسلام، وغداً إذا لم نسارع في إعلان استسلامنا، سيكون العرض أن لا بديل عن إقدامنا على الانتحار. النظام السوري سبق أن طلب ذلك من شخص أعرفه”. انتهى الاقتباس.
هذا رأي لكاتب عربي هادئ ورزين وموضوعي ومثقف وليس رأياً كوردياً منفعلاً وعاطفياً ومتأثراً بسخونة الموقف في عفرين. لقد بات هؤلاء مكبلين في أصفادٍ مفاتيحها بيد الرئيس التركي يفتح أقفالها عندما يحتاجهم فيوجههم إلى ما يشاء، ويغلقها عندما لا يرى ضرورة لخروجهم إلى الناس. أما هم فقد استمرؤوا اللعبة ورضوا بها بديلاً، طالما لا وظيفة أخرى لهم وطالما يأكلون ويشربون وينامون، وطالما لم تعد المهمة التي خرجوا من أجلها أول مرة في حدود الممكن. لقد جعلوا من أنفسهم رهائن حتى رفعهم الراهن إلى مقام العبيد.. وهم به سعداء.