ما بعد كركوك

إبراهيم اليوسف
 
لاشك أن تراجيديا احتلال كركوك من قبل حكومة بغداد،  لم تكن لتتم، لولا أنها  استعانت بالحشد الشعبي، وجيشها، بالإضافة إلى ما يسمى ب” الحرس الثوري الإيراني” ناهيك عن أن كل ذلك تم بتنسيق تركي، وتواطؤ أمريكي، ما أدى إلى أن تنسحب قوات البيشمركة، من المواجهة الغادرة ليلة السادس عشر من تشرين الثاني/أكتوبر الماضي، حقناً للدماء، الكردية الكردية: أولاً، قبل دماء قوات البيشمركة المدافعة، وحدها، بعد أن تم التمكن من اختراق جبهتها، وفق مخطط غير متوقع، لتؤكد البيشمركة، في ما بعد، شجاعتها، وحنكتها، وحكمتها، عندما نجحت في قراءة فحوى ما جرى، لتواجه بعد ذلك،  تلك القوة التي كانت تمتلك أحدث الأسلحة الأمريكية المتطورة، بل وتلحق بها الهزيمة، بعد أن تبجح  مهندسوها بأنها سوف تدخل أربيل/هولير، وتعود بها إلى بيت الطاعة العراقي، وهو هنا البيت الإيراني بلا منازع..!
ثمة من توقفوا عند هذا الحدث، وباتوا ينظرون إلى واقع إقليم كردستان، سواء أكانوا شامتين بما تم، أو متألمين على ما جرى ، من خلال هذه النكسة العرضية التي وقعت، وهنا فنحن أمام ضيق أفق كبير، من قبل كلا الطرفين، إذ إن محاكمة الواقع لا يمكن أن تتم من خلال ما هو طارىء، بل ينظر إليه، ضمن إطار شامل، يتم عبره ربط الماضي بالحاضر، لاسيما إن كركوك لم تعد إلى الإقليم أكثر من سنتين، بعد أن تمت مواجهة تنظيم داعش، وطرده، وضبط المدينة، والمنطقة، وحمايتها، بما يصعب أن يعيد الأمور إلى نصابها إلا على أيدي البيشمركة، لاسيما في المرحلة الحالية، حيث زعزعة هيبة بغداد، وخصوصية لوحة كركوك، وهما عاملان، يؤكدان، بالإضافة إلى إصرار الكرد على استعادة قلب كردستان، بأن ما تم هو مؤقت، وأن كركوك لابد عائدة إلى حضنها الكردستاني.
ولو أمعنا قراءة المشهد السياسي الكردستاني، فإننا لنرى أن قيادة أربيل/ هولير باتت الأكثر حفاظاً على هويتها، وعلى خطابها، من دون ممارسة أية سياسات خاطئة، وهوما بات يدركه ملايين الكرد في أجزاء كردستان، ماعدا بعض الذين لا ينظرون إلى المصلحة القومية الكردستانية العليا، إلا من خلال ذواتهم الضيقة: العائلية، أو الحزبية، أو حتى القبلية، وهم في الحقيقة ليسوا إلا قلة، معزولين، غير مؤثرين، لولا امتلاك بعضهم أدوات القمع وشراء الذمم، لا أكثر.
من هنا، فإن قضية” البيت الداخلي” الكردستاني، لابد من العودة إليها، مرة أخرى، على ضوء الجاري، فمن جهة إن  التصدعات التي سببتها نكسة كركوك حفرت أثرها عميقاً، في الجسد الكردستاني، بما هو مؤلم أكثر من أي تصدع في البيت نفسه، كما أنها  وضعت الوجود الكردستاني كله على المحك، من جهة أخرى، وقوت شوكة المتربصين من الأعداء الذين بات مؤشر  تصريحاتهم يرتفع يومياً، مطالبين أربيل بالمزيد من التنازلات، وهم ينسفون الدستور العراقي، من خلال الاستعانة بالقوة العسكرية، داخلياً وخارجياً، لمواجهة إقليم كردستان، وتم  إزهاق أرواح المئات من المدنيين الأبرياء في كركوك، وغيرها من المناطق التي تسمى ب” المتنازع عليها”، بما يجعل رئيس الحكومة، وكل من تورط معه في التأليب، أو المشاركة في هذا العمل العسكري مسؤولين أمام أية محكمة دستورية عادلة، غير مسيسة، كما هو حال المحكمة التي تأسست في العام2004-أي قبيل إقرار الدستور الفيدرالي- ويعد حيدر العبادي، على رأس القائمة، بالإضافة إلى سواه، ومن بينهم حتى هؤلاء البرلمانيون، الذين حضوا على الفتنة، قبل نكسة كركوك، وبعدها، حتى الآن.
إن قيادة إقليم كردستان-الآن- أمام الإرث المتراكم من التصدعات التي تمت في البيت الداخلي، بعيد محطة كركوك، مطالبة باستعادة هيبتها، وذلك لوضع حد نهائي لنقاط الضعف التي تم اختراقها، بل ولدواعي اختراقها، وفي مطلعها توحيد إدارة المنطقتين: إربيل والسليمانية، على أساس قومي، وطني، بالإضافة إلى الشروع باستكمال تقوية دعائم البنية التحتية، والاقتصادية، والعسكرية، والشروع بمصالحة شاملة لكل من ينطلق من موقف نقدي، فحسب، لأن هناك من لا يستطيع إلا أداء دوره الكابح، نتيجة ارتباطه الإقليمي، أو حتى نتيجة تراكمات ردود فعله الذاتية الكيدية.
ويدخل ضمن إطار دعامات التحصين الذاتي وضع حد لأي تدخل عسكري لا علاقة له بالإقليم، وله أجنداته، ودوافعه الخاصة، وظهر خلال الفترة الماضية بأنه لم- يهش ولم ينش- في مواجهة الاعتداء الآثم من قبل حكومة المركز، الأداة بيد- القوى الإيرانية- وغيرها، لأن وجود هكذا قوة بات عاملاً تقويضياً خطيراً يمس أمن كردستان، وكان من الممكن الاستفادة منه، في دعم الإقليم، في محنته التي شهدناها، إلا أنه، قد حدث العكس، على ضوء ما لحظناه، بكل أسف..!.
لم يعد ثمة خوف على كركوك، بالرغم مما تعرضت له، وبالرغم مما هي عليه الآن، بل وبالرغم  من كل التزوير التاريخي الجغرافي الذي  تم ويتم من أجل محو هويتها، ووجود أهلها الكردستانيين،، لأن حقيقة انتمائها الكردستاني بانت للعالم بأسره، ناهيك عن أن أبنائها الكردستانيين أكدوا ذلك، بالرغم من بعض أصوات النشاز معروفة المصدر والتي تؤدي الأدوار المطلوبة منها، وهي لا تمت بأية صلة لضمير هذا المكان، وهذا كله ما يرتب على عقول قادة الإقليم استدراك كل ما تم، واستدراكه، بما هو ممكن ضمن ترتيبات خصوصية الإقليم، وإن كان كل من آذى، أو خان، لا يمكن له أن يزيل اللطخة السوداء من تاريخه، أياً كان موقعه، أو أياً كان..!
إن ما يدفع إلى الطمأنينة، هو أن وضع إقليم كردستان، هو الأقوى، بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى من كردستان، وهو التجربة الكردستانية الأكثر رسوخاً. إذ ثمة ما هو متفق عليه دولياً، ولا يمكن النيل منه، حتى وإن استيقظت في نفوس تلامذة إيران وصدام حسين وحتى أتاتورك نوستالجيا تسمية: شمال العراق، أو محاولة جعلها مجرد محافظة، أو حتى محافظتين، أو ثلاثاً كما هي الآن، من عداد محافظات العراق، من دون خصوصيتها التي لا تساوم عليها البتة، فهو ما يذكر بوهم ضمِّ الكويت من قبل صدام حسين ليجعلها- المحافظة التاسعة عشرة-  بيد أنه هزم، وشهد الكثير من الانهيارات الدرامية قبل أن يصعد- عود المشنقة- وتلف الأنشوطة حول رقبته، ويلقى مصيره المعروف.
 
*المقال كتب بعد احتلال كركوك مباشرة…!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…