د. محمود عباس
إدارة أردوغان تدرك نوعية قواتها، وكذلك خبراء تركيا العسكريين، يعلمون أن أي مواجهة حقيقية مع إحدى الدول الأوروبية سيجلبون على ذاتهم كارثة لا تقل عن تلك التي أدت إلى زوال الإمبراطورية العثمانية، فما بالنا بمواجهة روسيا أو أمريكا التي يتبجح بها أردوغان إعلاميا!
مع ذلك يملك وحزبه قدرات خفية، لها ثقلها، ويستخدمها تحت غطاء قوته العسكري المضخمة (كان الأولى أن تستغل الدول العربية هذه الإمكانيات قبله وبالدروب السوية) مثلما تسخرها وبقوة وعمق أئمة ولاية الفقيه، وهو الإسلام السياسي، والإفرازات الناتجة عنه، بدءً من المنظمات الإرهابية، إلى الحروب المذهبية المؤدية إلى ظهور العديد من الآفات، كالهجرة، والمخيمات التي أصبحت ثقلاً على كاهل أوروبا والمنظمات الإنسانية العالمية.
وهنا تتمحور القضية، المستخدمة من قبل تركيا وإيران، ما بين تشكيل الأحزاب الإسلامية الراديكالية والمنظمات المتطرفة، وإعدادهم عند الحاجة والحد منهم أو القضاء عليهم عند الضرورة، وعرض وجودهم أو عدمهم كصفقات مع العالم الحضاري، ولا شك هذا التعامل أصبح رائجا منذ عقدين أو أكثر، ولا يزال ينتشر ويتصاعد، تناولها أردوغان منذ بدء الصراع الأخير في الشرق الأوسط، خاصة عندما بدأت تركيا تشعر بفائض في دخلها الوطني، على خلفية ما حصلت عليه من الشركات الرأسمالية العالمية، لتقويتها واستخدامها كدولة إسلامية ليبرالية ضمن العالم الإسلامي، قبل أن تنحرف إلى العمق الراديكالي، وتصبح عراب المنظمات الإسلامية الإرهابية كداعش والنصرة، وفرقة نور الدين زنكي، وغيرهم.
يعلم أردوغان خلفيته العرقية، ومنبته، وعدم انتمائه إلى القومية التركية، وللتغطية نسب ذاته إلى الأصول الجورجية، وهو في الواقع لا يمت إلى الأصل الستاليني، بل أغلب المتتبعين لتاريخه يشككون في انتمائه الجورجي، وينسبونه إلى مجموعات الغجر المتحضرين (نذكرها ليس شماتة بأي عرق أو نسب أو وضعية اجتماعية، بل بعملية التغطية على الحقيقة والتي كان عليه أن يفتخر بها، وبقدراته التي أوصلته إلى هذه المكانة، وكثيراً ما يذكرنا تمويهه هذا بصدام حسين عندما أعاد بأصله إلى نسب الرسول، وسخر البغض لرسم شجرة مفبركة لعائلته. وهكذا أردوغان وعلى خلفية الإحساس بالنقص أصبح عنصريا أكثر من الأتراك الشوفينيين ذاتهم، مثله مثل رئيس حكومته بن علي يلدرم، المتخلي ولجبن ما كرئيسه، عن قوميته الكردية والناسب أصله إلى القومية العربية، فيخدمون معاً وبذل ودونية القومية التركية، لنقص في الذات، وهذه هي نفس المعضلة التي يعاني منها المستعربون العروبيون خارج الجزيرة العربية أمام الإسلام العروبي) وقد تربى أردوغان ضمن البيئة الفقيرة، حيث هيمنة ثقافة الانتماء إلى الإسلام على البعد القومي التركي، ولكن بعد تصدره المراكز السياسية في الدولة كان لابد عليه التمسك بزمام القومية الطاغية على المجتمع التركي، ومن ثم دمجها مع مفاهيم الإسلام السياسي، فأصبح هذا الخلط نهجاً لحزب العدالة والتنمية، والذي من خلاله وجدت القوى الرأسمالية العالمية والدول الأوروبية ضالتهم، وتكالبوا على دعمه بهذه الضخامة، وكان مناسبا لاستراتيجيتهم في العالم الإسلامي، وحينها كان براك أوباما يصفه بـ”الزعيم المفضل من العالم الإسلامي” ويمثل” الإسلام المعتدل” إلى أن ظهرت عليه الانحرافات الراديكالية السنية والقومية. مع ذلك ورغم تألقه وصعود نجمه، فالعديد من المحللين السياسيين، لا يرونه رجل السياسة، كرئيس وزراءه السابق على سبيل المثال، ولهذا سقط في مستنقع الدكتاتورية في إدارة الدولة، ويرجحون نجاحه السابق إلى الدعم الخارجي وتمسكه بالنهج الإسلامي.
تدرك إدارة أردوغان وجود هذه الآفة فيه وفي رئيس حكومته وشرورها، لكنهم قانعون مادام يخدمان الأمة التركية العثمانية، مثلما تعلم ما تجول على الساحة الدبلوماسية والسياسية، وقيمة الصفقات المتداولة (القضاء على المنظمات السورية المعارضة، الراديكالية وغيرها، وقضية تهجير المخيمات إلى أوروبا أو إعادتهم، القضاء على الفارين من داعش أو تركهم، وغيرها) مع الدول الكبرى المعنية، والتي من ورائها حصل على الصمت الأوروبي، ليس لخوفهم من هذه المنظمات وإرهابهم، بل لتغوص تركيا أكثر في المستنقع الراديكالي، وتستمر الصراعات المذهبية في المنطقة، وهذا ما لا ينتبه إليه الكماليون وكذلك القوميون الأتراك في إدارته وإلا فما كان قد حصل على دعمهم في هجومه على عفرين، أو لربما النعرة العنصرية طغت أو أعمت بصيرتهم . وكذلك على الموافقة الروسية والتغاضي الأمريكي عما يجري في غربي الفرات، وسكوتهم على المجازر الجارية بحق المدنيين الكرد في منطقة عفرين. كما وحصل على عدم اعتراضهم على أساليبه الإجرامية، وطرقه في تصعيد الحقد والكراهية بين شعوب المنطقة، وتكفير الكرد، ومحاولة القضاء على النهوض الكردي، وتمييع قضيتهم، وضرب المكتسبات التي حصلوا عليها في السنوات الأخيرة.
وللتغطية على بشائعه أمام العالم الحضاري، وخاصة الأوروبي (الذي يمر في مرحلة الخمول وعدم اللامبالاة، بمعظم مجريات الأحداث السياسية-العسكرية في العالم، مركزين على الاقتصاد والاستقرار الداخلي) يسلط الضوء بشكل متواصل على مدى تأثيره على الحركات الإسلامية، مكثفاً من إبراز العامل الديني السني في تحركاته السياسية، على المستويين الداخلي والخارجي، وكانت أخر هذه المحاولات تجميعه لأئمة المراكز الدينية والمساجد في تركيا، للدعاء له في حربه على الكرد، ولجلب الانتصار له في غزوته على عفرين، وعقد مؤتمر إسلامي تحت تسمية (مؤتمر المجلس الإسلامي السوري، مجلس الإفتاء) لإصدار فتوى فاجرة، يحق فيها لجيشه ومرتزقته من الأعراب الخونة، بسبي النساء الكرد، وقتل أطفالهم، ونهب أموالهم، وقتل رجالهم، واعتبار الكرد كفاراً فقط لأنهم يواجهون جيش أردوغان! وفي الواقع هذا الحراك الإسلامي السني رسائل لأوروبا على أن العالم الإسلامي يقف ورائه، قبل أن يكون دعما لقواته المسلحة، والتي رغم ضعف العتاد الكردي تكاد تعريه أمام العالم، رغم استخدامه لأكثر من 20 ألف مرتزق عروبي تكفيري من مخلفات داعش والنصرة في حربه القذرة!
أوروبا قبل روسيا وأمريكا أمام إشكالية سياسية إسلامية غير بسيطة، لذلك يتعاملون مع أردوغان بحساسية، وعلى الأغلب لهم استراتيجيتهم، ومنها التخلص منه ومن حزبه، فالقفزة إلى العالم العثماني، وتسخير الإسلام لمأرب قومية، جلبت بالمقابل تحالفات دولية ضده، فرغم ثقله الحاضر المتأرجح بين الناتو وروسيا، هناك مراكز الضعف التي بدأت تنخر في البنية التحتية لحزب العدالة والتنمية، وهي نابعة من الحزب ذاته، وعليه فقد تراجعت مكانته وحزبه في الداخل، ولهذا تصاعدت موجة الاعتقالات في عموم تركيا، وبدأ أردوغان ينحرف نحو النهج الدكتاتوري في التعامل مع معارضيه، وبشكل خاص مع الشعب الكردي وحركته السياسية. وفي الساحة الخارجية، أنتقل أردوغان مع حزبه من صفر مشاكل إلى العديد من المشاكل والصراعات والخلافات مع معظم الدول الإقليمية والأوروبية، وحتى مع أمريكا، وكذلك مع الشركات الرأسمالية العالمية في الواقع الاقتصادي، فبدأت تظهر مرحلة التراجع وذلك على خلفية إيقاف الدعم بشكل متدرج، فالعملة التركية بدأت تهبط، وتبينت بوادر العجز التجاري، رغم الصفقات الضخمة مع روسيا وإيران، وتراجعت وتيرة الدخل القومي من 12% إلى أقل من 3%، إلى جانب غيرها من مؤشرات سقوطه، ويعلم تماما أن عملية عفرين ليست أكثر من محاولة لإنقاذ ذاته وحزبه، وستتبين مستقبلا أن هذه الغزوة استعجلت في انهياره، ولا يستبعد أن يكون الصمت الأوروبي، والسكوت الأمريكي، ولربما الموافقة الروسية بحد ذاتها على هجومه وإشراك المنظمات السورية المدرجة على قائمة الإرهاب عند الروس خاصة، من ضمن استراتيجية إزاحته.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1-3-2018م