د. ولات ح محمد
ربما كان أحد أسباب سماح أمريكا للعبادي بدخول كركوك – بعد التآمر مع مجموعة كوردية – هو سعيها لتسجيل نصر باسم الرجل الذي أرادت له أن ينجح في الانتخابات القادمة للحد من نفوذ إيران في العراق من خلال إنهاء دور ميليشيات الحشد الشعبي التابعة لها (وقد صرح العبادي كثيراً بذلك) وقطع الطريق على نوري المالكي ومنعه من الفوز بولاية ثالثة تم منعه منها قبل أربع سنوات ونُصّب العبادي مكانه. ومن أجل الهدف ذاته وقبل الحدث الكركوكي رتب وزير الخارجة الأمريكي ريكس تيلرسون زيارة للعبادي إلى الرياض العاصمة السعودية لتقوية علاقاته مع الدول العربية (السنية) بغية إبعاد العراق عن الهيمنة الإيرانية. ولتقوية هذا المعسكر قام كل من السيد مقتدى الصدر والسيد عمار الحكيم في الفترة ذاتها بزيارة مماثلة في الهدف إلى العاصمة الرياض أيضاً.
عقب زيارته المملكة العربية السعودية آنفة الذكر التي قام بها قبل هجومه على كركوك قام العبادي بزيارة طهران وقال له مرشدها آنذاك: إياك والتفريط بالحشد الشعبي”، وذلك رداً على دعوة تيلرسون إلى ضرورة خروج المليشيات الإيرانية من العراق، ما جعل العبادي يقول في لقائه مع الوزير الأمريكي في بغداد إن الحشد الشعبي قوة عراقية قانونية وليست أجنبية حتى يتم إخراجها من العراق.
يبدو أن دعوات رئيس الوزراء لحل تلك المليشيات لم تكن إلا ذراً للرماد في عيون الأمريكان والخليجيين من جهة ومحاولةً لشراء الدعم الإيراني له مقابل الإبقاء على تلك القوات من جهة ثانية. إذا كان الأمر كذلك فإنه قد نجح في الأمرين معاً؛ فقد حصل على ضوء أخضر أمريكي ومباركة سعودية على دخول كركوك بعد أن أقنعهم بأنه يحتاج إلى نصر يعتمد عليه لتقوية جبهته الداخلية وتوسيع قاعدته الشعبية للفوز في الانتخابات المقبلة كي يتمكن من الحد من النفوذ الإيراني من خلال حل قوات الحشد وإضعاف نوري المالكي. ويبدو أن الأمريكان والسعوديين قد اقتنعوا بذلك فوجدوا أن في دعم العبادي في مسألة كركوك فائدة أكبر بكثير من الوقوف مع الكورد ضده في تلك القضية حتى وإن كان فيها فائدة إيرانية مرحلياً.
الجديد في الأمر أن العبادي بعد أن استقرت له الأوضاع أطاح قبل أسابيع بكل ذلك وأعلن تحالفاً مع الحشد الشعبي نفسه، وكأن شيئاً لم يتم قبل شهور بينه وبين الأمريكان والخليجيين وحلفائه المحليين. وربما هذا ما يفسر ردة فعل السيد الصدر القوية على ذلك التحالف، إذ شن هجوماً لاذعاً عليه متهماً العبادي بالتوجه الطائفي لأنه ربما اعتبر أن رئيس الوزراء بهذا التحالف ذي اللون الواحد (بعد أن انضم إليهما الحكيم) قد تخلى عن المشروع العراقي الوطني الذي كان يدعيه وكانوا يعملون عليه بمساعدة الأمريكان وبعض الدول العربية كالسعودية والأردن. فما الذي دفع العبادي إلى مثل هذا التحالف وما الذي أفشله وما دلالاته؟.
إذا تجاوزنا ظواهر الأمور فإننا أمام أحد احتمالين: فإما أن واشنطن كانت موافقة على هذا التحالف وأن ما أفشله هو تدافع الرؤوس الكثيرة التي تبحث جميعاً عن الزعامة والأولية ناهيك عن الحساسيات الشخصية بين تلك الرؤوس. وإما أن واشنطن قد تفاجأت بذلك التحالف كما تفاجأ الخليجيون والسيد مقتدى الصدر والقوى العراقية الأخرى التي كانت تعول على العبادي في تشكيل تحالف عابر للطائفية ولمصالح الدول الإقليمية كما وعد هو نفسه في مناسبات كثيرة سابقة.
في الحالة الأولى لا بد من موافقة إيران أيضاً على هذا التحالف وهي التي لا يمكن لقادة الحشد الإقدام على هكذا خطوة من دون توقيعها. وهذا يعني في المحصلة أن واشنطن وطهران كانتا متفقتين بشكل ما على ذلك وأن لهما مصلحة مشتركة في مثل هذا النوع من التحالفات لأنه يسهم في إنجاح “ديك” كل منهما. وهنا يبرز سؤال كبير عن مدى مصداقية واشنطن مع حلفائها في العراق وفي المنطقة حول سعيها (الذي سيصبح مزعوماً في هذه الحالة) للحد من نفوذ إيران وميليشياتها في كل من العراق والمنطقة.
في الحالة الثانية سيكون اعتراض واشنطن على هكذا تحالف هو الذي أدى إلى إنهائه قبل أن ينهي يومه الأول. وهكذا يكون العبادي بتحالفه مع قوات الحشد قد وضع نفسه أولاً في مواجهة مع مصالح واشنطن وتوجهات حلفائها من الدول العربية إرضاء لإيران. وهو وضع لا يمكن للعبادي تحمل نتائجه على المديين المتوسط والبعيد. وثانياً صار – بعد فشل التحالف – في مواجهة مع إيران وميليشيات الحشد التي ستكون منافسه الأقوى في الانتخابات.
هذا التقلب في مواقف العبادي يذكرنا أيضاً بموقفه من الكورد الذين وعدهم في بداية ولايته بأنه سيحل كل المشاكل العالقة التي خلفها سلفه المالكي، وقام بزيارات عدة إلى أربيل وبدا في لحظة وكأنه سيصنع مع قيادة الإقليم سلاماً فشل في صنعه كل أسلافه منذ 2003. ثم فجأة قدم نفسه وكأنه الوحيد القادر على الوقوف في وجه الكورد وطموحاتهم (في متاجرة انتخابية فاضحة) لدرجة أنه لم يتردد في خوض حرب عسكرية ميدانية كان الرجل الذي أطلق الإذن بإشعال شراراتها وإن كان قرارها قد صدر من مكان آخر. وفي النتيجة بات اليوم يعتمد على فئة قليلة من الكورد بعد أن كان كانت غالبيتهم العظمى حلفاءه قبل مغامرته تلك.
هذا التقدم والتراجع والتلون وتعدد الوجوه في سياسات العبادي، وهذا التخبط في فرز الأصدقاء والخصوم والارتجالية في اختيار حلفائه وفي معالجة الأمور يجعل المتابع والمراقب يطرح السؤال الآتي: هل ما يقوم به العبادي هو دليل على سلوك سياسي ذكي ومحنك قادر على تسخير كل الظروف والمعطيات لصالحه لدرجةٍ يضحي فيها بأصدقائه في سبيل كسب المزيد من الأصوات سعياً للحصول على الولاية الثانية؟ أم هو دليل سذاجة سياسية وضعف في شخصية رجل غير قادر على تحديد ما يريد واختيار الوسائل والحلفاء الذين يناسبون توجهاته ويساعدونه على تحقيقها؟. هذا التسرع في تشكيل تحالف مع قوى وعد بإزالتها وبعدم السماح لها بخوض الانتخابات ثم فض ذلك التحالف قبل مضي أربع وعشرين ساعة على إعلانه هل هو دليل على أن الرجل يتخبط في سياساته وأنه يحتاج إلى الكثير حتى يدرك أن لعبة السياسة والتحالفات تختلف عن لعبة شد الحبل التي لا يحتاج المتباري فيها كي يفوز إلا إلى المزيد من الأفراد بصرف النظر عن أخلاقهم وثقافتهم وخلفياتهم السياسية والآيديولوجية؟.
من دون ترجيح أي من الاحتمالين وأي جواب عن الأسئلة المطروحة أعلاه فإن قبول العبادي التحالف مع ميليشياتٍ وَعَدَ بعدم السماح لها بخوض الانتخابات لأن مشاركتها بتلك الصيغة مخالفة للدستور، ثم إعلان فشل ذلك التحالف قبل انتهاء يومه الأول قد ضرب الكثير من مصداقية الرجل وشعبيته التي تشكلت خلال السنتين الماضيتن لدى الناخب العراقي. فهل كان عقد ذلك التحالف من طرف الحشد الشعبي ثم فضه في أقل من أربع وعشرين ساعة مخططاً إيرانياً لتوريط العبادي وزعزعة صورته ومصداقيته وكشف نفاقه أمام الشارع العراقي؟!.
في كل الأحوال خسر العبادي بهذه العملية الكثير من الدعم في الوسط الشيعي لأن ميليشيات الحشد هي التي تخلت عن العبادي وليس العكس. وهذا يعني أنه غير مرغوب فيه من طرف قوة شيعية مهمة، على الأقل لارتباطها المباشر بطهران، خصوصاً بعد أن تركه الحكيم أيضاً. كما خسر العبادي بهذه الخطوة المتسرعة الكثير من الأصوات في الوسط السني الذي وجد فيه خلال الفترة الماضية ذلك السياسي البعيد نسبياً من الطائفية والواقف نسبياً على مسافة متقاربة مع الجميع. اهتزت الآن هذه الصورة، إذ ليس هناك ما يسوغ تحالف العبادي مع قوات الحشد سوى نزعته الطائفية من جهة وإرضائه طهران من جهة ثانية وانتهازيته من جهة ثالثة التي تدفعه للتحالف مع أيٍّ كان في سبيل بلوغه كرسي الرئاسة. وهي عوامل أو عناصر مقيتة لدى الجمهور السني الذي لم يدفع خلال السنوات الماضية إلا ثمن هيمنة تلك العناصر.
اجتمع “النصر” و”الفتح” و”الحكمة” في تحالف مهيب. طمع العبادي في كسب أصوات “الناس” الداعمة لهما دائراً ظهره لكل حلفائه الحقيقيين والمتوقعين المفترضين داخل العراق وخارجه، ولكن “فتح” العامري خرج سريعاً وأغلق الباب خلفه أمام “نصر” العبادي، لأنه بدوره يريد من “أفواج الناس” أن تدخل في إمرته هو. وعندما وجد الحكيم الأمر على هذا النحو رأى أنه من “الحكمة” أن يكسب غنائم الانتخابات وحده دون شريك. وبذلك عاد العبادي وحيداً كما كان، ولكنْ ليس كما كان.
بعد كل هذا، وإذا تذكرنا أن العبادي لم يصبح رئيساً للوزراء عن طريق الانتخابات بل بالتوافق بعد أن رفض العراقيون تجديد ولاية المالكي، يحق لنا السؤال: هل حيدر العبادي انتهازي ذكي وقناص للفرص حسب مقتضى اللعبة السياسية، أم أنه رجل محظوظ تسير الرياح مصادفة بما تشتهي سفنه، خدمته الظروف والوقائع بدءاً بتوليه المنصب ولكنه ضعيف ومتخبط وفاشل حتى في استغلال ما يحققه له حظه السعيد؟. وهل يكون الأمريكان بذلك والعرب أيضاً قد وضعوا بيضهم في سلة مكسورة، لأن كل ما يحسب له نجاحاً حتى الآن لا يخرج عن معنى المثل العربي القائل: “رب رميةٍ من غير رام”؟.