«عرب الغَمر» في جزيرة الأكراد

حازم الامين
حين أشار صديقي الكردي بيده إلى القرية العربية الواقعة على شمال الطريق بين مدينتي القامشلي وعامودا الكرديتين السوريتين، طلب مني أن ألاحظ التمييز الذي خضعت له القرى الكردية من قبل النظام السوري. قال إن في كل قرية عربية مسجداً ومدرسة ومقراً لحزب البعث، بينما القرى الكردية حُرمت من كل تقديمات الدولة. والحال أنني لم أتمكن من تحديد التمييز، على رغم أنني لاحظت فوارق، ذاك أن بؤساً هائلاً يجمع بين نمطين من القرى هو أول ما يلوح لعابر بالقرب منها. القرى العربية اسمنتية المنازل وعارية الجدران، ولا تقيها من شمس الصحراء الحارقة أي شجرة أو جدول ماء، فيما بيوت القرى الكردية ذاوية وزائلة، ولا يبعث قِدَم جدرانها على شعور بهيبة العمر بقدر ما يؤشر إلى تفتت وتآكل. وهي بدورها قرى عارية أصاب الجفاف منازلها، فيما لم يصل الإسفلت إلى طرقها وممراتها.
مناسبة هذه الاستعادة تجدّد السجال المتوتر العربي- الكردي حول «عرب الغمر» على هامش الحرب في مدينة عفرين. و «عرب الغمر» هم أبناء العشائر العربية الذين ساقهم نظام البعث من الرقة وريفها ومناطق سورية أخرى، وزرعهم في مناطق ذات غالبية كردية. وأطلق أكراد الجزيرة على تلك القرى التي أنشأها النظام لـ «عرب الغمر» اسم المستعمرات، فيما اختار النظام لها أسماء استلّها من قاموس البعث من نوع «أم الربيعين» و «القحطانية» و «المالكية».
الأكراد أطلقوا على جيرانهم الجدد اسم «المستعمرين»، فيما أطلق عليهم معارضو النظام من العرب اسم «المقتلعين». شبهة العلاقة مع النظام رافقتهم، ذاك أنهم عربه الذين استعان بهم لكبح الغلبة الكردية في تلك المنطقة، وهذا صحيح إلى حدٍ كبير. لكن حقيقة أنهم ضحاياه واضحة أيضاً، فهم أبناء المناطق التي طاف عليها نهر الفرات بعد إنشاء سد البعث، وتحولت قراهم إلى بحيرة. وهم أيضاً من خارج هوية النظام المذهبية، وهم، إذ وردوا في أدبياته بصفتهم «عرباً أقحاحاً»، فهو أبقاهم في بؤسهم وفقرهم على نحو ما أبقى أكراده في البؤس والحرمان.
لا يجمع «عرب الغَمر» بأكراد الجزيرة الكثير من القواسم المشتركة. نمطا عيش مختلفان تماماً. لكن ما يجمعهما على نحو لا تخطئه العين هو أنهما، وعلى مر تجربة التجاور القسري، كانا ضحيتي النظام. وهنا يمكن الاجتهاد قليلاً، ذاك أن تفاوتاً في صورة الضحية لم يساعد على التوافق. التفاوت بين من أرضه محتلة وبين من هو مقتلع من أرضه. بين من هو ممنوع من اسمه ولغته وثقافته، وبين من هو مستدرج لأن يكون في صلب نظام لا يمت إليه بأي قرابة أو مصلحة.
نحن هنا حيال سجال بين ضحيتين، ومن بلغ قبل الآخر صورة الضحية. ربما من العدالة أن يعترف العرب للأكراد بأنهم كانوا السباقين إلى صورة الضحية، لكن العدل يقضي أيضاً بأن ينال العرب قدراً من الاعتراف الكردي بحقيقة أنهم ضحايا أيضاً. لكن هذا الاقتراح لا يبدو واقعياً، وهو قد يثير السخرية بمثاليته، ذاك أن وقائع كثيرة حصلت على ضفتي هذه المأساة. العرب كانوا ضحايا البعث، لكنهم كانوا أداته أيضاً، وها هم الأكراد يكررون التجربة. والعكس صحيح أيضاً، ذاك أن رواية زرع النظام «أعرابه» في جزيرة الأكراد، تُقابل برواية عربية كان البعث وراءها أيضاً، وهي أن سكان الجزيرة من الأكراد هم ممن قذفت بهم الحرب العالمية الأولى من تركيا إلى سورية. وهنا تأخذ المأساة بعداً جديداً لا يبدو أن الوعي البعثي بعيد عنها.
وبين «عرب الغمر» و «عرب المستعمرات»، وبين الأصول التركية لأكراد الجزيرة، لن يكون الشفاء سهلاً، وسيكون «داعش» كما البعث قبله، فرصة لمزيد من الضغائن ومحاولات الانتقام. وفكرة تماهي الضحية مع الجلاد ستجد مختبراً هائلاً لصحتها وسط هذا الحطام المديد.
نقلاً عن صحيفة ” الحياة ” اللندنية، 29-1/ 2018

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…