جان كورد
بسبب الفشل الكبير الذي أصاب كل الحكومات المتعاقبة على الحكم في أنقره، منذ قيام الجمهورية في عام 1923 في حروبها المتتالية على الشعب الكوردي، ورغم ارتكابها مختلف أشكال الصهر القومي والتعذيب الوحشي والتقتيل والإرهاب الحكومي والتهجير والتدمير بحقه، فإنها في عهد الرئيس أردوغان تسعى إلى النجاح خارج الحدود التركية، في العراق وسوريا ولو كانت تلك الانتصارات جزئية لا تؤثر في المشهد العام الذي عليه الأوضاع في شمال كوردستان، حيث تعيش الأغلبية الكوردية بالنسبة إلى باقي أجزاء كوردستان المجزّأة. وآخر ما قامت به الحكومة التركية ضد هذا الشعب كان في شمال سوريا، حيث دفعت بقواتها العسكرية إلى احتلال جزء من الأراضي السورية من دون طلب رسمي من الحكومة في دمشق وأطلقت على تلك العملية اسم “درع الفرات”، على الرغم من أن الهدف الأساسي لم يكن تحرير سوريا أو أي جزء منها من القوات السورية أو من المنظمات الإرهابية، وإنما لمنع قيام أي إدارة ما يساهم فيها الكورد،
وتسعى أنقره الآن للهجوم على مدينة عفرين والمنطقة الواسعة المحيطة بها (365 قرية) التي تسمى بمنطقة “كورداغ” باللغة التركية وتعني حرفياً (جبل الكورد)، وهي منطقة خالية من التركمان وفيها أقلية عربية نشأت في العشرين سنة الماضية بسبب سياسة التعريب التي طبقها نظام البعث وكبرت هذه الأقلية بسبب الحرب السورية التي أرغمت مئات الألوف بل الملايين من السوريين إلى ترك مواطن سكانهم واللجوء إلى مناطق أخرى، ومنها هذه المنطقة. والسعي التركي ليس خطيراً فقط بسبب أن حكومة أنقرة عازمة على اقتحام عفرين عسكرياً ولكن بسبب نية تركيا في ضم المنطقة، تماماً مثل لواء الاسكندرون إلى بلادها، وهذا ما سيجعل المنطقة ساحةً لصراعاتٍ قد تدوم عقوداً من الزمن.
السيد أردوغان يبحث عن نجاحٍ ما لحزبه الحاكم، في أي مكانٍ كان، بعد فشله في تحقيقه لدى السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وفي إقناعه لاستلام غريمه وأستاذه السابق السيد فتح الله غولن من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي علاقاته مع العالم الغربي وإسرائيل، وكذلك في تسلطه على مفاتيح المستقبل السوري، إضافةً إلى مشاكله مع بعض الدول العربية الهامة… بل فشله في القضاء على حزب العمال الكوردستاني الذي لايزال يثير لتركيا لأنقره المشاكل رغم الظروف الصعبة التي يمر بها. والبحث الأردوغاني عن النجاح بات ضرورياً، حيث أن حليفه في حلف النيتو، الولايات المتحدة الأمريكية لم تقم بدعم الفصيل السوري من هذا الحزب في سوريا فحسب، وإنما أبدت استعدادها لتشكيل قوة عسكرية نواتها من الكورد ومن مقاتلي هذا الحزب لنشرها على طول الحدود التركية – السورية والعراقية – السورية، وهذا يشكّل عقبة كأداء على طريق التدخل التركي في عمق الدولة السورية وفي محاولات أنقره القضاء على جذور حزب العمال الكوردستاني الممتدة عبر المنطقة الكوردية السورية برمتها منذ إعلان هذا الحزب الثورة على أنقرة.
ولذا، يمكن القول بأن “المغامرة” التركية المرتقبة في منطقة “كورداغ” التي مركزها عفرين قد تفشل أيضاً مثلما فشلت مساعيها في تطهير منطقة جبل قنديل داخل إقليم جنوب كوردستان، وهذا سيشجّع الكورد على ابداء المزيد من التحدي للدولة التركية، وسيحمل القضية الكوردية في سوريا إلى الأوساط الدولية، وهذا لن يفيد تركيا وإنما سيضّر بها تماماً، إضافة إلى أن هذه المنطقة ليست منبج والباب وجرابلس فهي منطقة جبلية يمكن إلحاق الأذى فيها بالجيوش النظامية، تركيةً كانت أو سورية، والشعب الكوردي في هذه المنطقة ذو وعي قومي ناضج ولديه الاستعداد للمقاومة، بل إن هذه المنطقة قدمت آلاف المتطوعين من الفتيان والفتيات لحزب العمال الكوردستاني ولفصيله السوري حزب الاتحاد الديموقراطي، ولن يتوانى عن تقديم المزيد من التضحيات والشهداء في سبيل الدفاع عن نفسه وأرضه.
وهذا يعني أن على تركيا التفكير ملياً في أي خطوةٍ تفوح منها رائحة العدوان والاحتلال، فمن ناحية، هذه المنطقة لا تزال “سورية” حسب الخريطة المعترف بها لهذه الدولة العضو في الأمم المتحدة، ولا بد أن يكون لحكومة دمشق رأي في أي تمدد آخر للجيش التركي على أراضيها، والدول العربية المؤيدة للسياسة الأمريكية لن تظل صامتة لمجرّد أن تركيا أظهرت تضامنها مع الشعب الفلسطيني بصدد مسألة القدس، أو لأن الحزب الحاكم فيها يحلم في قيادة العالم الإسلامي، وإن واشنطن لن تقبل في أن تقضي تركيا على حليف لها في سوريا ، تمده بالسلاح وتسعى لتقويته لأنه أثبت جدارته في الحرب على الإرهاب، كما أن الروس ليسوا مستعدين للرضوخ لسائر الرغبات التركية ومنها الرغبة في القضاء على كل ما هو “كوردي” حتى على سطح المريخ. والاتحاد الأوربي يعلم أن كل حريقٍ في الشرق الأوسط يزيد من تدفق اللاجئين إلى بلدانه… وسيكون للتدخل التركي في عفرين تأثير سلبي كبير في العلاقة بين الكورد والترك داخل تركيا وقد يؤجج الصراعات بشكل مثير.
هذه الأمور كلها تدعو إلى أن يفكّر العقلاء في تركيا ويضغطوا على حكومتهم لتتراجع عن هكذا “مغامرة” غير مضمونة النتائج. بل على العكس من ذلك، على الحكومة التركية بناء جسرٍ ثابت من العلاقات الإيجابية مع الكورد وحراكهم السياسي في المنطقة لأنهم منتشرون على طول حدودها مع سوريا بمئات الكيلومترات، وهذا سيتيح للشركات التركية المجال لتحقيق مصالحها ومنافعها باستمرار، فالحرب لن تفيد أحداً وستضر بتركيا أكثر مما تضر بالكورد بالتأكيد.
15 كانون الثاني، 2018