جان كورد
الأسطورة التاريخية عن “عقب أخيل” التي نجمت عن تراكمات الحرب الإغريقية على شعب “طروادة” الباسل، تتلخّص في أن أخيليس ابن ملك مير ميدون من زوجته ثيتس تم غطسه في الماء بعد ولادته كإجراء من الطقوس الدينية، فتبلل كل جسده إلاّ نقطة واحدة في عقب إحدى ساقيه، وهي النقطة التي سدد عليها فيما بعد عدوه باريس أثناء تلك الحرب سهمه فأصابه وقتله. ومصطلح “عقب أخيل” أو “كعب أخيل” في السياسة يعني “نقطة الضعف” لدى العدو.
في اتهام رئيس “مجمّع مصلحة النظام” في طهران لإقليم جنوب كوردستان (كوردستان العراق!) بأنها وراء المظاهرات الكبيرة في أكثر من 70 مدينة اعتراف من الأوساط السياسية العليا للنظام بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه كوردستان في تغيير الأوضاع السائدة في إيران،
وهذا قد يثير انتباه الدول والقوى الدولية التي لها مصالح في هذا التغيير، إلاّ أنه اتهام باطل ويتضمن ارتباكاً واضطراباً في النظام لشدة هذه المظاهرات وتحوّلها من مطالبات مادية واقتصادية شعبية إلى مبادرة عملية لدك النظام السياسي من أساسه بدءاً بالهجوم على رؤوسه المرعوبين، بحيث أربكت المظاهرات مختلف مواقعه الأساسية، فشرع كل مسؤولٍ يسارع إلى اتهام جهةٍ من الجهات الخارجية بالتحريض عليها أو التخطيط لها، ومنها إقليم جنوب كوردستان (كوردستان العراق!)، وكذلك اتهام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والعربية السعودية، ولربما اتهام بنغلاديش والمستعمرة الفرنسية بورا بورا في المحيط الهادي أيضاً، وكل ذلك للتغطية على حقيقة ما يجري في الشارع الإيراني من أحداثٍ جسام، ربما تؤدي إلى اسقاط الحكم في المستقبل، أو لسوق البلاد صوب حربٍ داخلية مدمرة كما جرى في سوريا التي رفض نظامها الاعتراف بأن شعبه يريد الحرية ويطمح في حياةٍ أفضل.
وفي الحقيقة، فإن شرق كوردستان (كوردستان إيران!) الذي عدد مواطنيه يفوق عدد سكان عدة إمارات عربية، إضافةً إلى سكان لبنان وفلسطين، هي مهد من مهاد الحضارة الإنسانية، نشأ فيه كفاح الأمة الكوردية وشهد قيام عدة إمارات كوردية قوية في التاريخ، بل على أرضها قامت دولة ميديا الكبرى (عاصمتها كانت مدينة همدان الحالية) التي ضمت حدودها الشرقية معظم أفغانستان الحالية أيضاً. وفي القرن التاسع عشر كانت قاعدةً لثورة الشيخ عبيد الله النهري في عام 1880 م، كما شهدت في القرن العشرين قيام حركة الأمير سمكو الشكاكي وتأسيس جمهورية كوردستان في ظل الرئيس الشهيد العالم (القاضي محمد) الذي كان أول رئيس للحزب الديموقراطي الكوردستاني وقدّم عنقه في سبيل حرية أمته. مثلما ظهر العلامة السني أحمد مفتي زاده صاحب (مكاتب القرآن)، والشيخ عزالدين الحسيني الثائر في وجه الطغيان الفارسي أثناء حكم الشاه وحكم الملالي أيضاً، وشهد إقليم شرق كوردستان إعدام أو اغتيال كل الأمناء العامين للحزب الديموقراطي الكوردستاني على أيدي الشاه المخلوع ومن بعده على أيدي ملالي إيران، ومن هؤلاء الشهداء اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو غدراً في عام 1989 على طاولة المفاوضات السرية مع المسؤولين الإيرانيين في العاصمة النمساوية فيينا، حيث كان يبدي باستمرار استعداده للسلام والتعاون مع الحكومة المركزية المتنكرة لوعود الخميني قبل نجاح الثورة بمنح الكورد حقهم في إدارة أنفسهم (خودمختاري)، وكذلك الدكتور شرف قندي ورفاقٍ له فيما بعد، في مطعم ميكونوس في برلين، أثناء فترة حضورهم مؤتمر الاشتراكية الدولية. وهذا كله إثبات قاطع على إن إحدى كبرى ساحات الكفاح التحرري للشعوب الإيرانية كان ولا يزال (شرق كوردستان) التي قتل فيها آية الله خلخالي أكثر من 40.000 إنسان في حملاته الدموية على الشعب الكوردي، بل إن الخميني ذاته كان فد أصدر فتواه التي تنص على يها آية الله خلخالي أن “مفتاح الجنة في كوردستان” ودفع بمئات الألوف من أتباعه ليستحلوا دماء الكورد وأعراضهم وأموالهم، وقد أوكل مهمة إطلاق الرصاص بالجملة على شباب الكورد المنتفض ضد العنصرية والطائفية على حركة أمل اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية مع الأسف.
لقد أهمل النظام السياسي العربي، في كل المراحل السابقة، مسألة الاستفادة من “عقب أخيل” في إيران لدحر العدوان الفارسي الطائفي، فهو في كوردستان قبل أي جزءٍ آخر من أجزاء إيران، بل يمكن النفاذ إلى العمق الإيراني من هذا الكعب الضعيف، أو الحلقة الأضعف في هذه الدولة التي خطرها يشمل سائر منطقة الشرق الأوسط بثرواتها وعقائدها وشعوبها ومواقعها الاستراتيجية. ولا ندري إلى أي درجةٍ يتفهّم النظام السياسي العربي قضية الشعب الكوردي في شرق كوردستان، بعد أن تفهّمت جيداً قضية الشعب العربي في الأحواز (عربستان). ونقول بأن شرق كوردستان نقطة ضعف نظام الملالي في طهران وقم، لأن كوردستان تضم أكبر مجموعة سنية في إيران، ولأن أفكار التحرر القومي فيها عريقة، وثمة أحزاب ديموقراطية ليس لها أي مصلحة في العداء للأمة العربية، وليس لها حدود مباشرة عليها نزاعات مع أقاليم عربية، ثم إنها قادرة على خلق المتاعب لنظام الملالي كل حين بما لديها من قوات مقاتلة داخل إيران، فهل لدى العرب من حليفٍ أفضل من الكورد في هذه المنطقة؟ ضد من أطلق صواريخاً على الرياض التي من أهم عواصم العرب وهدد باحتلال الديار المقدسة، بل وضع لذلك الخطط، ورقص أتباعه في جامع بني أمية في سوريا هاتفين بسقوط “أعداء أهل البيت!”، ويقصدون به كل المسلمين السنة في العالم.
طبعاً، يرفض الشعب الكوردي مزاعم واتهامات الشريحة الطهرانية الفاسدة حول تحوّل عاصمة إقليم جنوب كوردستان إلى “وكر المؤامرة” ضد نظام الخميني الذي انتفضت ضد فساده وعفونته وتدخله السافر في شؤون الدول المجاورة كل الشعوب الإيرانية من كورد وبلوج وعرب وآذريين، بل وفرسٍ أيضاً، فالذي يتدخل في شؤون غيره هو هذا النظام الفاسد وليس الشعب الكوردي الثائر ضد الفساد والعنصرية والطائفية والتمييز، هذا الشعب الذي له مصلحة حقيقية في السلام والعيش مع جيرانه في أمنٍ واستقرار.
وبرأيي فإن على عاتق الدول العربية، المهتمة بحماية أمن بلادها واستقرارها وأنظمتها السياسية، دعم كفاح الشعوب الإيرانية كما دفعت دول الاتحاد الأوربي كفاح شعوب يوغسلافيا، فتحررت وصارت تتمتّع بالأمن والاستقرار كدولٍ متجاورة لا يستطيع العنصريون الصرب من السيطرة على مقدراتها بعد أن نالت استقلالها وحريتها. ونقل معركة العرب ضد العنصرية وأحلام السيطرة الفارسية والأفكار الطائفية الخمينية لن يكون ناجحاً إلاّ من خلال التسديد قبل كل شيء على “نقطة أخيل” الإيرانية التي هي (شرق كوردستان).
10 كانون الثاني، 2018