صانعو الهزائم حاصدو الغنائم.. عن مغامرة وفد القص واللصق

د. ولات ح محمد
    بعضهم سلم كركوك إلى القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي وتسبب في تهجير مئات الآلاف مقابل مكاسب شخصية، وبعضهم كان شريكاً في حكومة إقليم كوردستان وفي كل مؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية أيام الرخاء والعز، وعندما ظن أن المركب سوف يغرق قفز منه تاركاً الناس لمصيرهم؟. أولئك الذين خلال السنوات الماضية وضعوا يداً في السلطة وأخرى خارجها تعمل على تخريبها، وهو أحد الأسباب التي أدت إلى إضعاف حكومة الإقليم وإهمال بغداد مطالبها والاستقواء عليها. أما بعضهم الثالث فإنه لم يعترض بكلمة واحدة على إجراء الاستفتاء، بل ذهب إلى الصناديق ولون إصبعه برحاً مفتخراً. ثم قال فيما بعد إن الاستفتاء كان خطأ واتهم قيادة الإقليم بالاستعجال والفساد وطالب بتغييرها، وذلك بتلوّن حربائي فظيع. 
هؤلاء هم الكورد الذين التقوا حيدر العبادي في بغداد، أحدهم منفرداً خارج حزبه والآخرون في وفد من أحزابٍ مقصوصةٍ من أحزابها الأم وملصوقة في وفدٍ للضرورة على شكل قص ولصق. دون أن يغفل المتابع ذلك الخيط الأسود الذي يوصل المنبوذ من حزبه بالممثلين لأحزابهم وإن لم يكن معهم في وفد واحد.
    ثمة أمران يثيران الانتباه والاستغراب في هذه المسألة، يتعلق الأول بالعبادي والثاني بالوفد الزائر: فالعبادي يستقبل شخصاً لا يمثل حزبه ثم وفداً من ثلاثة أحزاب كوردية تعتبر نفسها معارضة وليست لها أية صفة رسمية في حكومة الإقليم، وبالتالي فهو لا يمثل إلا تلك الأحزاب وليس بإمكانه اتخاذ قرار في طريق التسوية مع بغداد، بينما يرفض العبادي نفسه منذ شهور كل دعوات حكومة الإقليم الرسمية الداعية إلى الحوار حول كل الملفات الخلافية في إطار الدستور العراقي، بل يقابل تلك الدعوات بالمزيد من العنجهية والتكبر والغطرسة. أما ما يتعلق بالوفد الزائر فإنه من جهته لم يذهب إلى بغداد بقصد المساهمة في فتح باب للحوار بين حكومة الإقليم وحكومة بغداد من أجل حل الملفات الإشكالية وفك الحصار وإعادة الإقليم وشعبه إلى الحالة الطبيعية، بل تصرف بمعزل عن الحكومة التي يتبعها قانونياً ودستورياً وعلى خط منافس أو بديل لخطها التفاوضي مع بغداد. 
    يتبين من هذين العاملين أن النية لدى كل من الزائر وصاحب الضيافة ليست إيجاد حل للقضايا الإشكالية القائمة بين بغداد وهولير ومنها دفع الرواتب لموظفي الإقليم وإعادة الأمن إلى سكان المناطق المتنازع عليها كما أراد بيان الوفد أن يصور أسباب زيارته ونتائجها؛ فلو أراد ذلك كان عليه الحوار مع من يمثل كل سكان الإقليم ومن بيده اتخاذ القرار وهو حكومة الإقليم الشرعية، أما الأطراف الكوردية فكان عليها لتحقيق هذا الهدف النبيل أن توظف حب العبادي لها في التوسط لديه للدخول في حوار مع حكومتها مادامت تحظى لديه بكل هذا الاحترام والتقدير. إذا كان ذلك كذلك فما الغاية التي في نفس كل من اليعقوبين إذن؟.
    يبدو أن العبادي أراد من هذه الخطوة أن يحقق مجموعة من الأهداف تصب في خانتين لهدفين كبيرين هما إفشال حكومة الإقليم وزيادة أوراقه الشخصية في الانتخابات المقبلة؛ فبعد أن فشل دولة الرئيس في إسقاط حكومة الإقليم فعلياً من خلال الحصار والتجويع والتهديد بالغزو يحاول الآن إسقاطها معنوياً في عيون شعب الإقليم وبأيدي أبنائه أنفسهم، ولذلك أراد تقديم تلك الأحزاب (المقربة من طهران وبغداد) بوصفها البديل “الأنسب”، وذلك من خلال استقباله لها وإعطائها وزناً وقيمة وأهمية كبرى وتصوير المسألة وكأن ذلك الوفد (وليس حكومة الإقليم) هو من يسعى لإنقاذ سكان الإقليم وأن العبادي قد استجاب لطلباتها وأن الفرج قد بات قريباً. وربما كانت الاتهامات التي وجهتها طهران لحكومة الإقليم بدعم وتحريك المظاهرات ضدها يدخل أيضاً في إطار السعي لإضعاف تلك الحكومة وتقوية الفريق الكوردي الزائر.
    الهدف الثاني من تصرف الرئيس الحكيم هو بث المزيد من الخلاف في صفوف الأحزاب الكوردية وجماهيرها (أو الاستفادة من الخلافات الموجودة) لمنعها من تشكيل كتلة كوردية واحدة كبرى تخوض الانتخابات القادمة وتدخل بعدها في حوار مع بغداد بوفد موحد وقوي، وإظهار المسألة وكأنها مجرد تنافس بين الأحزاب الكوردية للتقرب من العبادي وحكومته وكسب رضاهما ليس غير. 
    بات معلوماً أن العبادي تلقى في الآونة الأخيرة ضغوطاً هائلة من عواصم كبرى كواشنطن وباريس وبرلين ولندن وكذلك الأمم المتحدة للبدء بحوار جاد ومنتج في إطار الدستور مع حكومة الإقليم لحل الخلافات القائمة ومنها دفع رواتب موظفي الإقليم ، وهو ما سيقوم به فعلاً في المستقبل القريب. ما حدث هو أن العبادي الذي وجد نفسه أمام هذا الواقع وبعد أن عاقب شعب الإقليم على ذنب افتراضي لم يقترفه أراد أن يحقق الهدف الثالث ويسجل هذا المكسب الكوردستاني باسم تلك الأحزاب والشخصيات الزائرة التي تسببت هي ذاتها في محنة كوردستان الأخيرة. في هذه النقطة تلاقت المصلحة الذاتية للعبادي مع المصلحة الحزبية لتلك الأطراف والشخصيات التي أرادت أن تحصد إنجازاً ومكاسب لم تبذل في سبيلها جهداً (بل كان هروبها من الميدانين السياسي والعسكري أحد أهم أسباب إضعاف حكومة الإقليم ومحاصرة شعبه) فقامت بتلك الزيارة بعيداً عن حكومة الإقليم وعن التنسيق معها. 
    لقد أراد العبادي أن يقول لشعب كردستان إن هؤلاء الذين حاورناهم في بغداد هم الذين طالبونا بدفع رواتبكم وفتح الطرق بين بغداد والإقليم وإعادة الأمن إلى المناطق المضطربة والحفاظ على كيان الإقليم وغيرها، وإننا لسواد عيونهم أو لزرقتها سنفعل كل ذلك. علماً أن حكومة الإقليم بقيادة كل من نيجيرفان بارزاني ونائبه قوباد طالباني هي التي أقنعت تلك العواصم الكبرى بأن مطالبها محقة وبأن بغداد تتهرب من الحوار، وهذا ما دفع تلك الدول (إضافة إلى صندوق النقد الدولي) إلى ممارسة ضغوطها على العبادي التي ستدفعه إلى القبول بالحوار الذي كان يرفضه في السابق، فأراد أن يصور المسألة لشعب الإقليم وكأن تلك المجموعة التي زارت بغداد هي التي أقنعت العبادي بذلك.
    الكوردستانيون والعراقيون مقبلون على الانتخابات وخزائن تلك المجموعة خالية من أي إنجاز تقدمه للناس. ومن جهته لا يريد العبادي أن يُبقي على الجمهور الكوردي غاضباً من تصرفاته غير المقبولة خلال الشهور الماضية. ولكن الدخول في أي مفاوضات مع حكومة الإقليم يعني تقديم تنازلات لها، وهو ما سيظهره ضعيفاً في عيون جمهوره. لذلك أراد العبادي أن يضحك على الكورد باستقباله لهكذا وفد دون أن يضطر للتنازل له عن أي شيء على أرض الواقع، ودون أن يبدو متنازلاً لمن يراهم خصوماً له في حكومة الإقليم. إنها بالتالي تجارة رابحة بالنسبة له، وبذلك يكون قد حقق الهدف الرابع. 
    إضافة إلى ذلك ربما يعول العبادي على المقاعد التي سيحصدها أولئك الكورد للمساهمة في تجديد ولايته الذي لا يحظى بفرص كبيرة في ظل منافسة شديدة من خصمه التقليدي اللدود نوري المالي وخصومه الجدد من قادة الحشد الشعبي. وربما كان في ذلك أيضاً رد على تقرب المالكي من حكومة الإقليم ودعواته الأخيرة إلى حل جميع المشاكل من دون تأخير. وربما كان في حوار العبادي مع تلك المجموعة رسالة لحكومة الإقليم مفادها أن البديل الكوردي الذي يحاورنا وبشروطنا ومن دون وجع رأس موجود وينتظر إشارة من إصبع الشهادة. ويمكن أن يكون هذا الهدف الخامس.
    العبادي من جهته أراد أن يرسل هذه الرسائل إلى حكومة الإقليم وشعبه. أما تلك الأحزاب والشخصيات الكوردية من جهتها فتبحث لنفسها عن إنجاز تضعه في خزائنها الفارغة إلا من السيئات التي ارتكبتها بحق سكان الإقليم؛ فقد كان لأحدهم الدور الكبير في تسليم كركوك وكان سبباً في تشريد مئات الآلاف من بيوتهم وإحراق ممتلكاتهم ونهبها وفي عمليات التعريب التي عادت من جديد. أما البعض من الوفد الذهبي الموقر فقد تمثل دوره السلبي أولاً في انسحابه من حكومة الإقليم في وقت كان الناس بأمسّ الحاجة إلى وحدة الموقف والكلمة، وثانياً في كونه دفع الناس إلى التظاهر ضد تلك الحكومة بسبب تأخر الرواتب بدلاً من التظاهر ضد حكومة بغداد التي قطعت تلك الرواتب عنهم. وبذلك عملت على إضعاف هولير في مواجهتها مع بغداد، ما زاد هذه الأخير عنجهية وغروراً وتمادياً وتوهماً.
    العبادي (المضطر للدخول في حوار مع هولير وحل المشاكل البينية) بدلاً من أن يسلك الطريق الصحيح الذي يخدم العراق والعراقيين بحواره حكومة الإقليم اختار السبيل المعوج الذي يخدمه ويخدم طموحه الانتخابي ويشتت شمل الكورد. المفارقة هنا أن تلك الأحزاب والشخصيات حتى قبل شهور كانت تسمى “كورد المالكي”. اليوم أراد العبادي إعادة صياغتها في قالب جديد للوقوف معه ضد معلمهم الأول ومنافسه الأقوى في الانتخابات القادمة من جهة، وضد الكورد الذين يضغطون عليه ويطالبون بحقوق شعبهم في إقليم كوردستان وفق الدستور العراقي من جهة ثانية. 
    لقد أراد العبادي أن يسجل “إنجاز” الحوار والرواتب والأمن بأسماء أولئك الناس. أما هم فكانوا جاهزين لتلبية طلب الرئيس وهم الذين يحتاجون إلى أي شيء يلمع صورهم في عيون الكورد والكوردستانيين الذين يعرفون جيداً أولئك الذين اعتادوا الوقوف على أبواب الأمراء للمديح والتكسب على حساب مآسي شعبهم. وكذلك يعرفون جيداً من هم الهاربون من الميادين السياسية والعسكرية وقت الصعاب العائدون بعد انقشاع غبار المعركة لأخذ الغنائم، ويعلمون من باع ومن اشترى. نعم، يعرف الكورد وشعب الإقليم جيداً من هم صانعو الهزائم وحاصدو المكاسب في الوقت البديل من الضائع.. وبالمجان. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…