ابراهيم محمود
حاولت قدْر المستطاع كبْت مشاعري، وإخفاء ضعفي، وحتى قهر دموعي ” أو لستُ رجلاً، والرجال لا ينبغي أن يبكوا ؟”، فلم أستطع، لم أستطع، لم أستطع، وأنت يا سولين الابنة العزيزة، يا ورد الروح المشتعلة، تخرجين من البيت بعد أربع وعشرين سنة، من يوم الثلاثاء في 26-12/ 2017، الساعة الثانية عشرة وثلاث عشر دقيقة وثلاث عشرة ثانية، من دهوك ومعك صديقتك الصديقة، ونحن أحوج ما نكون إليك، تغادريننا عبر أربيل وبغداد إلى ” كولن ” حيث ينتظرك شريك حياتك هنا، وكلُّ أفراد العائلة: والدتك وأخواك وأهلك بين شهقة نابضة ودمعة قابضة، لم يكن لنا إلا أن نبكي فرحاً، تصوري: نبكي فرحاً من أجلك، هكذا نستقبل الحياة بكاء، ونودّع بعضناً بعضاً بكاء، وننتهي بكاء، ونفارق الحياة وفي قعر مآقينا دمعة شاهدة على البكاء الذي لا يقاوَم .
خرجت يا سولين وأنت منجرحة بما لا تستطيعين مغالبته: لم تستطيعي متابعة دراستك في وطن لا أدري أين هو الآن، وماذا يكون الآن، وفي أي صورة هو الآن.
اعلمي يا سولين، أنك ولِدت عزيزة، وكبرت عزيزة، وغادرتنا وأنت عزيزة، وستبقين عزيزة، اعلمي أنني إذ أكتب هذه الكلمات وتتناوبني حشرجات بكاء وفرح هو نفسه مغلوب على أمره، إنما ليكون هناك شاهد من روحي/ روحنا التي لم تشعر بهزيمة وعجز وتلبّك في اللحظة التي استقليت فيها سيارة صحبة صديقتك، كما هي الآن، لأجدني مغلياً من الداخل لاجئاً بزاوية غرفتي مكتبتي ودون أن أجد ما يردعني أبكي، ويلحقني الآخرون، كما لو أنني ببكائي هذا أثبت لكَم كنت عزيزة بيننا، لكم كنت تضيئين كلماتنا، مفارقَ ليلنا ونهارنا، وتضفين متعة على الطعام الذي نأكل، ومذاقاً آخر على الماء الذي نشر، وخفة حياة حيث نتحرك في البيت، كما لو أن الأبواب مفتوحة كانت تمرّر طلتك السولينية، موسيقا خطواتك، تقاسيم وجهك الوردي، حتى بالنسبة لصغيري البيت: ولدي أخيك: هريم ومينا، كما لو أنك الدواء الذي لا يبدَّل، ولا يعدَّل، البلسم الذي لا نظير لها يا فتاة أرواحنا قاطبة، ويا امرأة من أصبح الآن زوجاً لك .
اعلمي يا سولين، وليعلم من يريد أن يعلم، أنني حاولت ألا أكتب، وشعرت بقوة مضادة ترغمني على الكتابة، فقط لتكوني على بيّنة أنك إذ خرجت إلى حياتك الأخرى، كما هو حقك في أن تعيشي، وعلينا أن نعيش أملاً في أن تعيشي الحياة التي تليق بك في مقامها العالي كما هو وجهك العالي بضوعه، خرجنا نحن معك، ولكن هيهات…لقد صارت المسافات هي التي تحكم، لم تعد العين قادرة على الرؤية ولا اليد على اللمس لاحتضانك، يا صغيرتنا الكبيرة.
ربما أكون أكثر قدرة على التعبير فيما أنا عليه وباسم والدتك: كيف سنقاوم حواسنا عند نزلة ” كَري باصي “، نزلة ” أحمد خاني “، طريق ” أسواق الربيع “، الذهاب إلى ” هولاند “، مشهد ” السوق المركزية “، ومنعطفات شوارع الحي حيث كان صوتك يأتي فجأة: بابا.. ماما…والآن كيف سنقاوم خيالاً هو نفسه متيَّم بك، ولزمن يطول وسيطول..؟
كيف لنا يا سولين: والدتك وأنا، قبل أي كان، أن نقاوم هذا الجليد الفظ الذي يشمت بنا، وهو يتسرب إلى ثنايا الأنامل، والكلمات التي كانت حتى الأمس القريب جداً تثبُ دافئة بك؟ وأنت أنّى التفتنا نراك، أنى أصغينا نسمع صوتك، أنى حاولن الشم نستشعر رائحة خطواتك العبقة، كيف سنسد هذا النقص ؟ وقد أصبحت أبعد من حدود البعد نفسه؟
سولين، اعلمي للمرة الألف، وأنا أتحدث عن نفسي، تاركاً والدتك في مكابدتها الأمومية، أنني لا أترجم لك قهري، ضعفي الأبوي لأنك خرجت إلى حياتك، كما لو أن أنانيتنا، أنانيتي أرادتك بيننا، لا وألف لا، إنما هو تعبير عن فخامة حضورك بيننا أيتها النعّومة المهضومة حتى بغضبك أحياناً، اعتراف تاريخي مني قبل سواي بأنني الوالد الذي لم ينظر إليك إلا وأنت سولين، كما لو أنني حين كنت أكتب بصمت، أشعر بأمان وأنت في الجوار داخل محمية القلب، سولين القادرة على أن تكون بكامل شخصيتها، المرأة التي تضخ حياة وتشع محاسن روح، غير خجِل مما أقول عن ضعفي المفاجىء وبكائي المفاجىء، إنما لتعرفي ومن يريد أن يعرف، إلى أي مدى يحبك والدك، ويتمنى لك وزوجك الذي أصبحت الآن في بيته الألماني كل ما يبقيك وردة الحياة التي لا تذبل.
بكيت كثيراً، وأدركت كثيراً، مدى سخف الذين يقولون: ما هي المرأة بربك ؟ رداً على هؤلاء، وشهادة على أن الله لو لم يخلق حواء لما كان آدم آدم، لما كانت سولين التي أكتب لها وإليها، حيث لا مفر من البكاء الشهادة مني، منا جميعاً، لأنك كنت وردتنا العظمى، وستبقين وردتنا المثلى.
سولين، لا بد أنك ستقرأين هذه الكلمات، أو ستسمعين بها، أملي الوحيد أنك عندما تقرأينها أن تضحكي بكل جسدك الحدائقي، أن تضحكي بملء طاقتك، وألا تذرفي دمعة واحدة، لأننا بالنيابة عنك والدتك وأنا وأخوتك وأهلك هنا، حيث حرقة البعد عن البيت الأهلي بكينا وبكينا من أجلك. جرّبي اتصالاً وسوف تريننا نرفع نخبَ سعادتك ضحكنا الروحي والمصوَّر حتى ” كولن “.
دهوك، في 28- 12/ 2017