نـوري بـريـمـو
تجربة العالم المتمدّن أثبتت بجلاء أنّ التعالي على الآخرين وإقصائهم والشطب عليهم والتهرب من محاورتهم وإعتماد الأشكال العنفية في حل المُختَلَفات العالقة و…الخ, هو مسلَك لاعقلاني يسيئ إلى مبدأ التعايش المشترَك بين الشعوب والأمم المتجاورة ، لا بل إنّ هكذا جنوح عن القوانين الدنيوية العادلة والشرائع السماوية السمحة يعيد بنا إلى الأذهان تلك التقاليد اللاإنسانية التي كانت سائدة في عصر العبودية الذي عفى عليه الدهر وإندثر في بقاع كثيرة من معمورتنا بإستثناء مشرقنا الذي لا يزال يغرق بغالب بلدانه في غياهب الجهالة المعرفية والمظالم السلطوية.
ولمّا كان إنساننا الشرقي سواءً أكان عربياً أم كردياً أم أعجمياً أم تركياً أم غير ذلك…، يحمل ـ دون حَمدِه ـ في مكنونه الداخلي كموناً متراكماً لهلوَثة شمولية يمتد عمرها إلى أزمان بعيدة, فإنّه بطبائعه تلك يُعتبر حاملاً بالوراثة لعراقيل ذاتية تُضافُ إلى أخرى موضوعية داهمتنا ووقفت أسافين عائقة أمام دمقرطة مجتمعاتنا التي ترعرعنا في كنفها…, فبرزت مع الأيام عقلية التباهي بالإنتماء للعرق أو الطائفة أو العشيرة الفلانية المتمايزة عن مثيلاتها…!؟، وتشكلت دوائر إستبدادية روّجت لصوابية أفكار عقائدية معينة دون غيرها…!؟، وتكرّست مفاهيم صنمية أجبرت الناس على الولاء والطاعة العمياء للزعيم المطلق أو الحزب القائد أو الإمارة إلإلهية أو الرئيس الأبدي…!؟، ما أدى إلى هيمنة هكذا ركام مرَضي على أدمغة معظم أبناء الشعوب الشرقية الى حدٍّ نستطيع فيه القول بأنّ الجميع ـ أقلياتنا وأكثرياتنا ـ مصابون بهذه الآفات الصميمية الناخرة حتى العظم بشكل سلبي مخيف في عقولنا الباطنية المقموعة تحت رحمة سياط حتمية إطاعة العبد المأمور للسيد الآمر الناهي…!؟، حتى أمسى من الصعوبة بمكان وقوف البعض على أخطائهم الذاتية بواقعية وإنصاف، دون اللجوء إلى سلاح تسفيه أو تكفير الآخرين أو النظر إليهم برؤى دونية ليس إلاّ.
في حين نجد بالمقابل أنّ البلدان الديموقراطية الأكثر إنفراجاً على مكوّناتها المجتمعية قد غدت بمثابة نقاط ضوء متألِّقةً وتزداد ألقاً من حيث الرقي والتقدم والحضارية، بفضل تعافيهم من هكذا أمراض وراثية فتاكة، وبفعل اجتثاثهم لجذور مختلف فيروسات وخيوط التخلف والفساد والإفساد من نسيج علاقاتهم المدنية التي بات يسودها قدر لابأس به من الوئام والمحبة والسلم الأهلي المبني على أساس قبول مبدأ التحاصص النسبي في الحقوق والواجبات بين الشركاء وفق ضوابط طوعية ومبدأ المساواة الحقيقية بعيداً عن أية إعتبارات أو خلفيات شاطبة قد تنتقص أو تهين أو تدين حقوقياً أي طرف من أطراف معادلتهم الحياتية لتسود الألفة وسطهم دون أيّة عُقَد أو كراهية أو فتن أو….الخ, وهنا بالضبط يكمن سرّ نجاحهم الملحوظ وتفوّقهم اللامحدود بفضل سريان مناخات الرضى عن النفس وعن الآخر والشعور الإيجابي بنيل الحقوق لدى كل جانب بالأساليب الديموقراطية البعيدة كل البعد عن أشكال التناحر الدموي والعنف…، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: لماذا لا نحذو حذوهم…؟!، ونسير وفق خطاهم لنتنعم بمزايا الحياة التي ينعمون بها على قمة ذلك الهرم المجتمعي الحضاري الذي رسموا له بأدمغتهم فيما مضى من العصور ثم بنوه أحسن بنيان بسواعدهم وعرقهم ودمائهم التي ضحوا بها خدمة لأنفسهم ولأجيالهم القادمة فيما بعد…؟!، وهل من مسلك آمنٍ آخر سوى اللحاق بهم والسير على هدى خطاهم لنتمكن من العيش وفق منوالهم المتقدم…؟!، وما الضرر من إعتمادنا لمبدأ التعامل الديموقراطي فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان…؟!، أليست هذه قمة في الحضارية والتخطيط للعيش الحر الكريم…؟!.
الكلّ في بلداننا ـ أفراد أو جماعات ـ ينادون في خطاباتهم ومناهجهم وشعاراتهم وخاصة المعلَنة منها بالديمقراطية وحقوق الإنسان…، ليس هذا فحسب لا بل يظهرون بأنهم يسعون إليها بحرارة وتوق وفي أحيان كثيرة بالمزاودة على الغير…!؟، لكن المشكلة الكبرى تكمن في أنّ كلّ واحدٍ منهم ينشدها بطريقته الخاصة به جداً…!؟، أما الخلافات فتبرز وتبدأ فيما بين فرقائنا المختَلفين أصلاً، لمجرّد التفكير بالجلوس حول طاولة مستديرة للتشاور في ثنايا المواضيع المخَتلَف عليها، أو لمجرّد بروز أية مبادرة خيّرة تهدف إلى إصلاح ذات البين المخيف لدى البعض لكونه قد يؤدي إلى الإنتقاص من مكانتهم أو هيبتهم أو حصتهم…، في حين لا تبدأ العراقيل الجدية لتدلوَ بدلوِ فعلها السلبي المعيق إلاّ عندما تبدأ المحاولات الصادقة لترجمة ما نصبو إليه عبر إخراجه من الطور النظري إلى ساحة التطبيق العملي…!؟, والمصيبة الأكبر تكمن في أننا كسياسيين أو مثقفين أو كمواطنين عاديين، نبقى بإنطباعاتنا وطبائعنا المتوارثة أناساُ جداَ إشكاليين بل معَقَدين ومشاكسين للغاية…!؟, إذ عندما نختلف فيما بيننا في وجهات النظر والرؤى والإقتراحات ـ و هذا أمر أقل من عادي لدى الآخرين المتقدمين علينا علماً وحضارةً ـ حينئذ نلجأ بالغريزة وبشكل فوري إلى إتباع أساليب التوتير والعنف والضرب والتقسيم والطرح بدلاً من الهدوء والروّية واعتماد لغة التفاهم والمهادَنة واحتضان الأخر…!؟, والمشهد المأساوي هذا قد تكرّر كثيراً وسطنا، ويبدو أنه سيتكرّر في المستقبل, في حين ينبغي أن لا تلجأ كل الأطراف مهما بلغت درجة الخلاف إلى اختيار خيار القطيعة والمصادمات المؤسفة، إلاّ عندما تكون هنالك نوايا عدوانية لدى البعض منها، و حتى و لو كان الأمر كذلك جدلاً، فإنّ الحدّ من هذه الخلافات أو التقليل من شأنها ينبغي أن يكون هو الهدف المطلوب والمراد تحقيقه على الدوام، وهذا الشيء لا يمكن أن يتم إلاّ عبر الإلتقاء والحوار والتواصل بشكل سلمي للتوصل إلى توافقات وقواسم مشتركة تخدم وتحقق مصالح وحقوق الكلّ ، على أرضية خدمة الصالح الإنساني العام الذي يجب أن لا تعلو عليه أية أغراض أخرى.
================
* جريدة الصباح الجديد: جريدة يومية سياسية مستقلة تصدر عن دار الصباح الجديد للطباعة والنشر ـ بغداد ـ العدد (900) الأحد (15-7-2007)م، الصفحة التاسعة.
في حين نجد بالمقابل أنّ البلدان الديموقراطية الأكثر إنفراجاً على مكوّناتها المجتمعية قد غدت بمثابة نقاط ضوء متألِّقةً وتزداد ألقاً من حيث الرقي والتقدم والحضارية، بفضل تعافيهم من هكذا أمراض وراثية فتاكة، وبفعل اجتثاثهم لجذور مختلف فيروسات وخيوط التخلف والفساد والإفساد من نسيج علاقاتهم المدنية التي بات يسودها قدر لابأس به من الوئام والمحبة والسلم الأهلي المبني على أساس قبول مبدأ التحاصص النسبي في الحقوق والواجبات بين الشركاء وفق ضوابط طوعية ومبدأ المساواة الحقيقية بعيداً عن أية إعتبارات أو خلفيات شاطبة قد تنتقص أو تهين أو تدين حقوقياً أي طرف من أطراف معادلتهم الحياتية لتسود الألفة وسطهم دون أيّة عُقَد أو كراهية أو فتن أو….الخ, وهنا بالضبط يكمن سرّ نجاحهم الملحوظ وتفوّقهم اللامحدود بفضل سريان مناخات الرضى عن النفس وعن الآخر والشعور الإيجابي بنيل الحقوق لدى كل جانب بالأساليب الديموقراطية البعيدة كل البعد عن أشكال التناحر الدموي والعنف…، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: لماذا لا نحذو حذوهم…؟!، ونسير وفق خطاهم لنتنعم بمزايا الحياة التي ينعمون بها على قمة ذلك الهرم المجتمعي الحضاري الذي رسموا له بأدمغتهم فيما مضى من العصور ثم بنوه أحسن بنيان بسواعدهم وعرقهم ودمائهم التي ضحوا بها خدمة لأنفسهم ولأجيالهم القادمة فيما بعد…؟!، وهل من مسلك آمنٍ آخر سوى اللحاق بهم والسير على هدى خطاهم لنتمكن من العيش وفق منوالهم المتقدم…؟!، وما الضرر من إعتمادنا لمبدأ التعامل الديموقراطي فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان…؟!، أليست هذه قمة في الحضارية والتخطيط للعيش الحر الكريم…؟!.
الكلّ في بلداننا ـ أفراد أو جماعات ـ ينادون في خطاباتهم ومناهجهم وشعاراتهم وخاصة المعلَنة منها بالديمقراطية وحقوق الإنسان…، ليس هذا فحسب لا بل يظهرون بأنهم يسعون إليها بحرارة وتوق وفي أحيان كثيرة بالمزاودة على الغير…!؟، لكن المشكلة الكبرى تكمن في أنّ كلّ واحدٍ منهم ينشدها بطريقته الخاصة به جداً…!؟، أما الخلافات فتبرز وتبدأ فيما بين فرقائنا المختَلفين أصلاً، لمجرّد التفكير بالجلوس حول طاولة مستديرة للتشاور في ثنايا المواضيع المخَتلَف عليها، أو لمجرّد بروز أية مبادرة خيّرة تهدف إلى إصلاح ذات البين المخيف لدى البعض لكونه قد يؤدي إلى الإنتقاص من مكانتهم أو هيبتهم أو حصتهم…، في حين لا تبدأ العراقيل الجدية لتدلوَ بدلوِ فعلها السلبي المعيق إلاّ عندما تبدأ المحاولات الصادقة لترجمة ما نصبو إليه عبر إخراجه من الطور النظري إلى ساحة التطبيق العملي…!؟, والمصيبة الأكبر تكمن في أننا كسياسيين أو مثقفين أو كمواطنين عاديين، نبقى بإنطباعاتنا وطبائعنا المتوارثة أناساُ جداَ إشكاليين بل معَقَدين ومشاكسين للغاية…!؟, إذ عندما نختلف فيما بيننا في وجهات النظر والرؤى والإقتراحات ـ و هذا أمر أقل من عادي لدى الآخرين المتقدمين علينا علماً وحضارةً ـ حينئذ نلجأ بالغريزة وبشكل فوري إلى إتباع أساليب التوتير والعنف والضرب والتقسيم والطرح بدلاً من الهدوء والروّية واعتماد لغة التفاهم والمهادَنة واحتضان الأخر…!؟, والمشهد المأساوي هذا قد تكرّر كثيراً وسطنا، ويبدو أنه سيتكرّر في المستقبل, في حين ينبغي أن لا تلجأ كل الأطراف مهما بلغت درجة الخلاف إلى اختيار خيار القطيعة والمصادمات المؤسفة، إلاّ عندما تكون هنالك نوايا عدوانية لدى البعض منها، و حتى و لو كان الأمر كذلك جدلاً، فإنّ الحدّ من هذه الخلافات أو التقليل من شأنها ينبغي أن يكون هو الهدف المطلوب والمراد تحقيقه على الدوام، وهذا الشيء لا يمكن أن يتم إلاّ عبر الإلتقاء والحوار والتواصل بشكل سلمي للتوصل إلى توافقات وقواسم مشتركة تخدم وتحقق مصالح وحقوق الكلّ ، على أرضية خدمة الصالح الإنساني العام الذي يجب أن لا تعلو عليه أية أغراض أخرى.
================
* جريدة الصباح الجديد: جريدة يومية سياسية مستقلة تصدر عن دار الصباح الجديد للطباعة والنشر ـ بغداد ـ العدد (900) الأحد (15-7-2007)م، الصفحة التاسعة.