ابراهيم محمود
2- استئناف المرسوم العُمَري!؟
إن السؤال الذي يمكن طرحه في إثر ما تقدم، ليس : أليس ما يجري، موقََّّع عليه، من قبل الجهات المعنية في الدولة، أو في إطار الدولة السورية المعتبَرة( الجمهورية العربية السورية ) كعنوان ذي دلالة: تحديدَ نظام، وتأطير مفهوم؟ أي أن الذي يجري، من خلال سياسات إسكانية، وليس استيطانية (والعكس هو القائم والمقوَّم طبعاً)، نظراً للفارق الكبير بينهما اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، لا يجوز اعتباره خارج صلاحيات الدولة السورية ومسلكياتها القومجية العروبية بجلاء، وعبر أجهزتها النافذة في اتخاذ أي قرار، أو تطبيقه، ضمن ما يسمى بـ( خدمة المصالح العليا في الدولة): وهو تعبير مرئي بمقوماته، وليس قبعة إخفاء، ليكون معجزة تتحدى من يحاول تفهمها!
لأن هذا السؤال بالذات، وفي حدوده النظرية والعملية الظاهرية، لا يستحق عناء تفكي، من أي كان للإجابة بالإيجاب، كما نوَّهت، حيث حدود الدولة هي نطاق صلاحياتها الذاتية المسيَّرة، وإنما السؤال المواجَه، وهو ذاته يواجه السؤال الآخر، باستنطاق مضمونه الفقهي الجغرافي، وهو: هل تنظر الدولة السورية، ومن خلال أجهزتها الإيديولوجية النظرية والعملية، إلى جهاتها الأربع، والذين يقيمون في هذه الجهات الجغرافية، على أنها متكافئة في القيمة، ليكون النظر الفقهي- الجغرافي ، بالتالي، مترافقاً مع سوية التصرف الدولتي وتوازنه الأمني العام؟
كما أشرنا سابقاً، وكما هو التاريخ المعاش حتى اللحظة، ليست الحدود، في جهاتها الأربع واحدة، ولا الذين يقيمون في الحدود- الجهات هذه يكون منظوراً إليهم في شؤونهم وشجونهم اليومية، بذات القيمة والمقدار الأخلاقيين.
إن أخلاقية الدولة، والتي تمتح مقومات وجودها وسؤددها الرمزي، من دالة السلطة القائمة، هي في أخص خصائصها، محرّفة لقانون وجودها الظاهري( الفينومين هنا)، والذي يزعم وجود مبدأ المواطنة الموحدة، من خلال نوعية الثقافة الأحادية البعد، والتعريب المفعل داخلاً، والحدود المأخوذ بها، هي التي تشير إلى هذا التفاوت، من خلال حركة الانتقالات والنزوحات( غير البريئة طبعاً: سلباً وإيجاباً)، لأفراد وعائلات وجماعات، يتم اختيارهم وظائفياً، مهنياً، مهامياً، إدارياً، في مناسبة دون أخرى، وحسب تقويمات تخرق القانون المختَرق أصلاً منذ البداية الأولى له.
القانون الموجود في ظاهريته، قانون ميتا حدودي! فالحدود تعيش صراعات أجناسها الموجهة والمحكومة بعلامات أضحوية نُذُرية أحياناً كثيرة، وبوسع أي معني أن يتصور ما تكونه كثافة القيمة الاعتبارية لما هو يجري ولما هو بري، ولما هو صحراوي، لما هو جنوبي ولما هو شرقي، أو غربي، أو جنوب غربي، ولما هو شمالي، وشمال شرقي، فهذه إحداثيات التكوين الفسيفسائي الدولتي الأمني الموجه في المجملً.
وما يجري، منذ فترة، وما يمكن أن يجري، يعيد إلينا المرسوم العُمَري( نسبة إلى الخليفة الراشدي الثاني، في القرن الهجري الثاني)، وهو يوزع البلاد ( المفتوحة) أرضاً وثروات، مع العباد على قبائل عربية جرى اختيارها، بنسب معلومة قبائلية، كان عمر مأخوذاً بفتنتها تماماً، كما في الجهة الشرقية، وتحديداً باتجاه العراق، كما لو أن البلاد المفتوحة، وليس المغزوة، في انتظار من سيطر عليها بالقوة، وليس برضى أهليها بالتأكيد .
فالدولة هنا، تتصرف بالذين تبعثرهم، على طريقتها ( من أصليي المكان)، مثلما تجمهر من تريد على طريقتها، ممن يشكلون، ما أعتبره بالجيش العقائدي الاحتياطي الرديف لها.
كما لو أن الذين يتم نقلهم من مكان ( تضرر)، إلى مكان، يُزعَم خالياً، هم احتياطيو أمانها، دون إدراك أن المقيمين، يزاحمون مصيرها السلطوي، وقودَ عنف يتعاظم باضطراد، كما لو أن الدولة في ممارساتها المهدوية المظهر لهؤلاء،تمثل الصواب في كل ما تفعله، وبرضاهم هنا.
هل حاول المعنيون فيما يجري، النظر فيما يقومون به: أولي الأمر، والذين يستعدون للانتقال، وما يمكن أن يحصل لاحقاً؟ إن الدولة التي تتصرف بسياسات تفاوتية مريعة بين المعتبرين رعاياها،دولة تقيم، وتترحل أو تتجوقل في التفاوتات المتخندقة، وبإمضاءات مسفَّرة منها، تعد لأكثر من حمام دم، فالترحيل المكاني المخل بالمكان، كما يجري ( جزراوياً)، وفي عقر دار الكردي تحديداً، أشبه بدق اسفين جغرافي، بالدفع بالأرض إلى التزلزل، آجلاً أو عاجلاً، ولا أظن الدولة المعنية بالمكتسبة للتاريخ حتى النهاية، ولا الذين يسيل لعابهم لهذا الانتقال غير المحمود، من جحيم ( مستحدث)، إلى جنة كارثية تتلغم بأكثر من معنى، وفي هذا الظرف بالذات.
أتحدث بالطريقة هذه، من خلال مجموعة العلامات المحيطية والبنيوية، والتي تعصف بالمنطقة عموماً، وتهدد الداخل السوري، وإن كان الداخل أكثر من داخل، عند البعض، ولكنه الداخل المحاط من الخارج، مثلما هو متشابك بجملة علائق اقتصادية وسياسية مشحونة بالعنف، رغم كل ما يمكن قوله أن هذا العنف يجري توجيهه، كما لو أن تحريك القطر الواحد لاعتباره الحزام الحركي الناسف، لا علاقة له بعموم الدائرة: أقطاراً وأوتاراً أخرى، وهذا ما يمكن قراءته على السطح، إلا أنه السطح الرجراج، وهو لا يني يرسل إشارات تعني الجميع من الأعماق.
كان الخليفة عمر، ووفق منطوفه الديني : الإسلامي القبائلي ( العروبي المبدون) وقتذاك، على بيّنة تامة بخصال الانتماء الإثني ( العصبوي)، كما تقول سيرته الآفاقية، وكان مخلصاً، أشد ما يكونه الإخلاص لعقيدته المركبة هذه، وهو يمارس خلق فجوات في الداخل العربي البدوي( في البيئة الحجازية والمكية خصوصاً)، من خلال تخفيف الضغط، وتحويل جاهلية القبيلة، باعتبارها زخماً عنفياً لا يخمد، إلى الخارج البعيد، أشبه بمن يخلّص نفسه من قنبلة على وشك الانفجار عانى منها الكثير، برميها بعيداً، ولكنه، كان مدركاً حق الإدراك، أنه يمارس نوعاً من الرشوة الجغرافية، والغواية الوجاهية، وسحر الامتلاك المادي والمعنوي، بتوزيع أراض تمت السيطرة عليها، بمن عليها، ليكسب سكوت المعنيين بها، ولكنه لم يضمن، وما كان عليه أن يضمن بقاء الأمكنة التي استولي عليها آمنة، أي ليسكب نار تاريخه العصبوي على زيت جغرافيا غير آمنة، ولا تُمتَلَك بسهولة.
وبوسعي القول، أن ما يجري في العراق اليوم ( عراق الشقاق والنفاق) بحسب تعبير الحجاج بن يوسف الثقفي الأموي العصبوي، من سفك دماء، موصول قرابة، بما جرى البت فيه، منذ أيام عمربكثافة، في جانب كبير منه.
لقد أكل عمر، هو وولاته حصرم الجغرافيا، وها هم أحفادهم، ومن يعيشون بين ظهرانيهم، يضرسون في عراء التاريخ الدنيوي، مثلما يستمرون في تناول الحصرم الجغرافي المنهوب كثيراً، وبأدوار متفاوتة القيمة، وها هو السواد، الموصوف سابقاً بستان قريش، جحيمَ من يشكلون أحفاداً وأنساباً لهم.
ولعل ما تزرعه السلطة من شوفان بيد، تحصده بؤساً فجائعياً باليد الأخرى، حيث نعيش أكثر من جغرافيا دواماتية: الجغرافيا الطائفية، أو تطييف الجغرافيا، مع ضمان بقاء سيطرة رموز طائفية موجهة سلطوياً، والجغرافيا القبائلية، والطائفية المتنقلة، دون صهر عناصرها، لتشكيل الجغرافيا الأمَّتية التعددية الموحَّدة، لأن الأرضية التي مهّدت، وتمهَّد لها بطرق شتى، ومن خلال من لا يريدون، في ضاديتهم المختزلة، للأرض التي تشهد على تنوعها التاريخي والديموغرافي، أن تستقر، وما يجري، ومنذ عقود زمنية، يتم تحت أكثر من غطاء براغماتيكي كارثي طبعاً، حيث تكون المواطنة الكلمة الضائعة، أو المضيعة المؤجَّلة، ما بقيت هي، دون الأمل بإيجادها ضمن لعبة الكلمات المتقاطعة لسلطة تستثيرها اللعبة الجغرافية والديموغرافية دون أو توحد إلهها.
لا بد من قليل من التفاصيل هنا !
فالحديث عن الدولة، ومنطق الدولة، يمكن القول، وكما أرى، أنها ليست حريصة، على سلطتها، قانونياً، على الأرض التي تخضعها لسلطتها هذه، بالطريقة التي تبقيها يقظة: دولة معتبرة محمية قاعدياً، أو حرصاً على العام فيها.
إن ما تعيشه الجزيرة هذه، وباعتبارها طرفاً، وأشبه بمساكب قيمية، هباتية، افتئاتية، تعيش انزلاقات تاريخية، وتستشرف أكثر من هاوية في الخاصرة السورية الراهنة خاصة، إنها تعيش قلقاً، أو وضعاً مقلقاً، أو أكثر من وضع ينذر بالانفجار،، حيث كل طارىء، وهي تعيش محكومة بما هو طوارئي، وحكم عرفي، أشبه بحدث تسونامي يبلبل الجهات كافة، ولا أحد بمنجى من تداعيات الحدث الناخر في الأسفل، والصاعد جهوياً.
لماذا الجنوب الفضفاض والممتد على جهتيه شغوف، إلى هذه الدرجة بالشمال؟ لا أظن، أن ثمة عشقاً وجدانياً في الموضوع، لأن العشق يتطلب تواصلاً لا يخلو من تكافؤ ما، ليكون حنين كل طرف إلى الآخر معززاً، لماذا الشمال، ودائماً، كان حِمى الجنوب، وإن كان هذا ينفتح على جنوب شرق، أو جنوب غرب، وبنسب متفاوتة محسوبة بدقة أمنية دولتية، يكون الشمال الغدق لما يأتيه على كره من أهليه، بينما هو الشمال البؤس لأهليه الأصلانيين، ولا نجد في الجنوب، أو فيما يسمى بـ( الداخل)، خط سير واحداً، يخفف من معاناة الشماليين هؤلاء، وهم في معظمهم كرد، من خلال ما يسلَب منهم، أرضاً وتفكيراً؟
تُرى متى كانت مزارع الدولة ، مثلاً،شمالاً، في انتظار أصحاب الحظ الجغرافي السعيد، ودائماً من الخارج الجزراوي، كما هو معلوم، كما لو أن الدولة تدرك حقاً صواب ما تقوم به: دولة الحق المطلق هيجلياً؟ تُرى، الدولة في الحالة هذه، تكون مزرعة من، سواد من؟
هنا، لا يجد المرء المعني نفسه، وليس سواه، إزاء المتخيل القومي، كما يذكر الباحث العراقي فالح عبدالجبار، في كتابه ( في الأحوال والأهوال” عن المنابع الثقافية والاجتماعية للعنف”)، والصادر حديثاً، ضمن ( كتاب في جريدة، 4تموز، 2007)،، ومن خلال اعتماده على الانتروبولوجي بندكت اندرسون، ومطوّراً فكرته عن الأمة والقومية والزمن، وخصوصاً مفهوم ( المهدوية) هنا، وصلة النظام الاجتماعي السياسي في الدولة بها، وكيفية تشكيل الهوية الذاتية في الرقعة العربية، لأنه لا التخيل القومي، ولا الفكري الحضاري، تأسسا فعلياً واقعاً، حيث يربط الباحث العراقي المتنور، الأول بالكواكبي، فيما يربط الآخر بالأفغاني، والاثنان، بعيدان عما تحقق واقعاً، كما ذكرت، لأن الدولة كمشروع، قيد التكوين، بقيت هلامية مشوهة باضطراد، وما زالت، حيث اللقاء الأوربي – الإسلامي- العربي كان لقاء إدهاش أكثر مما هو إنعاش، أو انتاش، إن جاز التعبير، إذ لم تمنح الفرصة التاريخية، لتبلغ سن الرشد السوسيولوجي التشريعي، ولن تمنَح في ظل المعطيات المتوافرة، كون السلطة المستحاثاتية في وجه جلي فيها، وهي تتبدى مهدوية الطابع، كما تؤكد سلوكياتها اليومية، منذ أكثر من نصف قرن، عربياً، وبتفاوت من منطقة لأخرى، وقد أحالت القاعدة إلى الهرم، والهرم إلى القاعدة، ولا تريد دولة، بكامل عدتها مفهوماً، واستحال المعتبَر شعباً أحجار الدومينو، كما يجري الآن ، كما لو أن الذين يجري التحكم بمصائرهم، وهم موعودون بالجنة الأرضية: الجزراوية، وسط ذهول أهليها الكرد هنا، ورغم أنوفهم، غير مدركين لما يمكن أن يحصل لاحقاً، على الأقل، من خلال لعبة التوترات المكانية المحيطية، والمصير المجهول الذي يتهدد الجميع، أي من خلال مواجهة الجميع ، بما يعدم الجميع، إن لم يكن اليوم فغداً، وهذا يشكل تحدياً لكل المعنيين بالموضوع، وقبل قبل كل شيء، تقع المسؤولية على عاتق الذين يتلمظون أو يمكن أن يتلمظوا بتخيل المكان الموعود أو رؤيته، دون التفكير في ساعة الصفر التاريخية الحرجة.
أشدد من هنا، ومن جديد، على أن التحرك داخل الجغرافيا، واللعب بها، دون مراعاة النتائج الوخيمة، يضاعف من التحديات التي لا أظن أن أولي الأمر، ممن يخططون لسياسات كهذه، براغبين فيها، مثلما لا أظن أنهم جَديون تماماً، في إظهارهم التحدي لمن يعترض عليهم هنا وهناك، وخصوصاً من خلال تحويل عموم القوى الاجتماعية إلى خنادق صراع متفجرة، وهم بعيدون عنها، وإذا حدث شيء كهذا، ونفّذ تماماً، فإن أبسط ما يمكن قوله، هو أن المستقدَم الضادي الذي يعِد ابنه بسكّر العيد، وفي المكان الموعود، لا يكون العيدَ الذي يُتصور بالتأكيد، مثلما أن أولي أمر سياسات كهذه، لن يكون آخرهم، كما هو المشتهى أولهم تخيلياً.
النفَّاج وحده،يغمض عينيه عما يجري حوله قليلاً أو كثيراً، ولا أتلمس في إغماض العين سوى السقوط المدوّي تاريخياً لهذا النفاج، عاجلاً أو آجلاً !
كما أشرنا سابقاً، وكما هو التاريخ المعاش حتى اللحظة، ليست الحدود، في جهاتها الأربع واحدة، ولا الذين يقيمون في الحدود- الجهات هذه يكون منظوراً إليهم في شؤونهم وشجونهم اليومية، بذات القيمة والمقدار الأخلاقيين.
إن أخلاقية الدولة، والتي تمتح مقومات وجودها وسؤددها الرمزي، من دالة السلطة القائمة، هي في أخص خصائصها، محرّفة لقانون وجودها الظاهري( الفينومين هنا)، والذي يزعم وجود مبدأ المواطنة الموحدة، من خلال نوعية الثقافة الأحادية البعد، والتعريب المفعل داخلاً، والحدود المأخوذ بها، هي التي تشير إلى هذا التفاوت، من خلال حركة الانتقالات والنزوحات( غير البريئة طبعاً: سلباً وإيجاباً)، لأفراد وعائلات وجماعات، يتم اختيارهم وظائفياً، مهنياً، مهامياً، إدارياً، في مناسبة دون أخرى، وحسب تقويمات تخرق القانون المختَرق أصلاً منذ البداية الأولى له.
القانون الموجود في ظاهريته، قانون ميتا حدودي! فالحدود تعيش صراعات أجناسها الموجهة والمحكومة بعلامات أضحوية نُذُرية أحياناً كثيرة، وبوسع أي معني أن يتصور ما تكونه كثافة القيمة الاعتبارية لما هو يجري ولما هو بري، ولما هو صحراوي، لما هو جنوبي ولما هو شرقي، أو غربي، أو جنوب غربي، ولما هو شمالي، وشمال شرقي، فهذه إحداثيات التكوين الفسيفسائي الدولتي الأمني الموجه في المجملً.
وما يجري، منذ فترة، وما يمكن أن يجري، يعيد إلينا المرسوم العُمَري( نسبة إلى الخليفة الراشدي الثاني، في القرن الهجري الثاني)، وهو يوزع البلاد ( المفتوحة) أرضاً وثروات، مع العباد على قبائل عربية جرى اختيارها، بنسب معلومة قبائلية، كان عمر مأخوذاً بفتنتها تماماً، كما في الجهة الشرقية، وتحديداً باتجاه العراق، كما لو أن البلاد المفتوحة، وليس المغزوة، في انتظار من سيطر عليها بالقوة، وليس برضى أهليها بالتأكيد .
فالدولة هنا، تتصرف بالذين تبعثرهم، على طريقتها ( من أصليي المكان)، مثلما تجمهر من تريد على طريقتها، ممن يشكلون، ما أعتبره بالجيش العقائدي الاحتياطي الرديف لها.
كما لو أن الذين يتم نقلهم من مكان ( تضرر)، إلى مكان، يُزعَم خالياً، هم احتياطيو أمانها، دون إدراك أن المقيمين، يزاحمون مصيرها السلطوي، وقودَ عنف يتعاظم باضطراد، كما لو أن الدولة في ممارساتها المهدوية المظهر لهؤلاء،تمثل الصواب في كل ما تفعله، وبرضاهم هنا.
هل حاول المعنيون فيما يجري، النظر فيما يقومون به: أولي الأمر، والذين يستعدون للانتقال، وما يمكن أن يحصل لاحقاً؟ إن الدولة التي تتصرف بسياسات تفاوتية مريعة بين المعتبرين رعاياها،دولة تقيم، وتترحل أو تتجوقل في التفاوتات المتخندقة، وبإمضاءات مسفَّرة منها، تعد لأكثر من حمام دم، فالترحيل المكاني المخل بالمكان، كما يجري ( جزراوياً)، وفي عقر دار الكردي تحديداً، أشبه بدق اسفين جغرافي، بالدفع بالأرض إلى التزلزل، آجلاً أو عاجلاً، ولا أظن الدولة المعنية بالمكتسبة للتاريخ حتى النهاية، ولا الذين يسيل لعابهم لهذا الانتقال غير المحمود، من جحيم ( مستحدث)، إلى جنة كارثية تتلغم بأكثر من معنى، وفي هذا الظرف بالذات.
أتحدث بالطريقة هذه، من خلال مجموعة العلامات المحيطية والبنيوية، والتي تعصف بالمنطقة عموماً، وتهدد الداخل السوري، وإن كان الداخل أكثر من داخل، عند البعض، ولكنه الداخل المحاط من الخارج، مثلما هو متشابك بجملة علائق اقتصادية وسياسية مشحونة بالعنف، رغم كل ما يمكن قوله أن هذا العنف يجري توجيهه، كما لو أن تحريك القطر الواحد لاعتباره الحزام الحركي الناسف، لا علاقة له بعموم الدائرة: أقطاراً وأوتاراً أخرى، وهذا ما يمكن قراءته على السطح، إلا أنه السطح الرجراج، وهو لا يني يرسل إشارات تعني الجميع من الأعماق.
كان الخليفة عمر، ووفق منطوفه الديني : الإسلامي القبائلي ( العروبي المبدون) وقتذاك، على بيّنة تامة بخصال الانتماء الإثني ( العصبوي)، كما تقول سيرته الآفاقية، وكان مخلصاً، أشد ما يكونه الإخلاص لعقيدته المركبة هذه، وهو يمارس خلق فجوات في الداخل العربي البدوي( في البيئة الحجازية والمكية خصوصاً)، من خلال تخفيف الضغط، وتحويل جاهلية القبيلة، باعتبارها زخماً عنفياً لا يخمد، إلى الخارج البعيد، أشبه بمن يخلّص نفسه من قنبلة على وشك الانفجار عانى منها الكثير، برميها بعيداً، ولكنه، كان مدركاً حق الإدراك، أنه يمارس نوعاً من الرشوة الجغرافية، والغواية الوجاهية، وسحر الامتلاك المادي والمعنوي، بتوزيع أراض تمت السيطرة عليها، بمن عليها، ليكسب سكوت المعنيين بها، ولكنه لم يضمن، وما كان عليه أن يضمن بقاء الأمكنة التي استولي عليها آمنة، أي ليسكب نار تاريخه العصبوي على زيت جغرافيا غير آمنة، ولا تُمتَلَك بسهولة.
وبوسعي القول، أن ما يجري في العراق اليوم ( عراق الشقاق والنفاق) بحسب تعبير الحجاج بن يوسف الثقفي الأموي العصبوي، من سفك دماء، موصول قرابة، بما جرى البت فيه، منذ أيام عمربكثافة، في جانب كبير منه.
لقد أكل عمر، هو وولاته حصرم الجغرافيا، وها هم أحفادهم، ومن يعيشون بين ظهرانيهم، يضرسون في عراء التاريخ الدنيوي، مثلما يستمرون في تناول الحصرم الجغرافي المنهوب كثيراً، وبأدوار متفاوتة القيمة، وها هو السواد، الموصوف سابقاً بستان قريش، جحيمَ من يشكلون أحفاداً وأنساباً لهم.
ولعل ما تزرعه السلطة من شوفان بيد، تحصده بؤساً فجائعياً باليد الأخرى، حيث نعيش أكثر من جغرافيا دواماتية: الجغرافيا الطائفية، أو تطييف الجغرافيا، مع ضمان بقاء سيطرة رموز طائفية موجهة سلطوياً، والجغرافيا القبائلية، والطائفية المتنقلة، دون صهر عناصرها، لتشكيل الجغرافيا الأمَّتية التعددية الموحَّدة، لأن الأرضية التي مهّدت، وتمهَّد لها بطرق شتى، ومن خلال من لا يريدون، في ضاديتهم المختزلة، للأرض التي تشهد على تنوعها التاريخي والديموغرافي، أن تستقر، وما يجري، ومنذ عقود زمنية، يتم تحت أكثر من غطاء براغماتيكي كارثي طبعاً، حيث تكون المواطنة الكلمة الضائعة، أو المضيعة المؤجَّلة، ما بقيت هي، دون الأمل بإيجادها ضمن لعبة الكلمات المتقاطعة لسلطة تستثيرها اللعبة الجغرافية والديموغرافية دون أو توحد إلهها.
لا بد من قليل من التفاصيل هنا !
فالحديث عن الدولة، ومنطق الدولة، يمكن القول، وكما أرى، أنها ليست حريصة، على سلطتها، قانونياً، على الأرض التي تخضعها لسلطتها هذه، بالطريقة التي تبقيها يقظة: دولة معتبرة محمية قاعدياً، أو حرصاً على العام فيها.
إن ما تعيشه الجزيرة هذه، وباعتبارها طرفاً، وأشبه بمساكب قيمية، هباتية، افتئاتية، تعيش انزلاقات تاريخية، وتستشرف أكثر من هاوية في الخاصرة السورية الراهنة خاصة، إنها تعيش قلقاً، أو وضعاً مقلقاً، أو أكثر من وضع ينذر بالانفجار،، حيث كل طارىء، وهي تعيش محكومة بما هو طوارئي، وحكم عرفي، أشبه بحدث تسونامي يبلبل الجهات كافة، ولا أحد بمنجى من تداعيات الحدث الناخر في الأسفل، والصاعد جهوياً.
لماذا الجنوب الفضفاض والممتد على جهتيه شغوف، إلى هذه الدرجة بالشمال؟ لا أظن، أن ثمة عشقاً وجدانياً في الموضوع، لأن العشق يتطلب تواصلاً لا يخلو من تكافؤ ما، ليكون حنين كل طرف إلى الآخر معززاً، لماذا الشمال، ودائماً، كان حِمى الجنوب، وإن كان هذا ينفتح على جنوب شرق، أو جنوب غرب، وبنسب متفاوتة محسوبة بدقة أمنية دولتية، يكون الشمال الغدق لما يأتيه على كره من أهليه، بينما هو الشمال البؤس لأهليه الأصلانيين، ولا نجد في الجنوب، أو فيما يسمى بـ( الداخل)، خط سير واحداً، يخفف من معاناة الشماليين هؤلاء، وهم في معظمهم كرد، من خلال ما يسلَب منهم، أرضاً وتفكيراً؟
تُرى متى كانت مزارع الدولة ، مثلاً،شمالاً، في انتظار أصحاب الحظ الجغرافي السعيد، ودائماً من الخارج الجزراوي، كما هو معلوم، كما لو أن الدولة تدرك حقاً صواب ما تقوم به: دولة الحق المطلق هيجلياً؟ تُرى، الدولة في الحالة هذه، تكون مزرعة من، سواد من؟
هنا، لا يجد المرء المعني نفسه، وليس سواه، إزاء المتخيل القومي، كما يذكر الباحث العراقي فالح عبدالجبار، في كتابه ( في الأحوال والأهوال” عن المنابع الثقافية والاجتماعية للعنف”)، والصادر حديثاً، ضمن ( كتاب في جريدة، 4تموز، 2007)،، ومن خلال اعتماده على الانتروبولوجي بندكت اندرسون، ومطوّراً فكرته عن الأمة والقومية والزمن، وخصوصاً مفهوم ( المهدوية) هنا، وصلة النظام الاجتماعي السياسي في الدولة بها، وكيفية تشكيل الهوية الذاتية في الرقعة العربية، لأنه لا التخيل القومي، ولا الفكري الحضاري، تأسسا فعلياً واقعاً، حيث يربط الباحث العراقي المتنور، الأول بالكواكبي، فيما يربط الآخر بالأفغاني، والاثنان، بعيدان عما تحقق واقعاً، كما ذكرت، لأن الدولة كمشروع، قيد التكوين، بقيت هلامية مشوهة باضطراد، وما زالت، حيث اللقاء الأوربي – الإسلامي- العربي كان لقاء إدهاش أكثر مما هو إنعاش، أو انتاش، إن جاز التعبير، إذ لم تمنح الفرصة التاريخية، لتبلغ سن الرشد السوسيولوجي التشريعي، ولن تمنَح في ظل المعطيات المتوافرة، كون السلطة المستحاثاتية في وجه جلي فيها، وهي تتبدى مهدوية الطابع، كما تؤكد سلوكياتها اليومية، منذ أكثر من نصف قرن، عربياً، وبتفاوت من منطقة لأخرى، وقد أحالت القاعدة إلى الهرم، والهرم إلى القاعدة، ولا تريد دولة، بكامل عدتها مفهوماً، واستحال المعتبَر شعباً أحجار الدومينو، كما يجري الآن ، كما لو أن الذين يجري التحكم بمصائرهم، وهم موعودون بالجنة الأرضية: الجزراوية، وسط ذهول أهليها الكرد هنا، ورغم أنوفهم، غير مدركين لما يمكن أن يحصل لاحقاً، على الأقل، من خلال لعبة التوترات المكانية المحيطية، والمصير المجهول الذي يتهدد الجميع، أي من خلال مواجهة الجميع ، بما يعدم الجميع، إن لم يكن اليوم فغداً، وهذا يشكل تحدياً لكل المعنيين بالموضوع، وقبل قبل كل شيء، تقع المسؤولية على عاتق الذين يتلمظون أو يمكن أن يتلمظوا بتخيل المكان الموعود أو رؤيته، دون التفكير في ساعة الصفر التاريخية الحرجة.
أشدد من هنا، ومن جديد، على أن التحرك داخل الجغرافيا، واللعب بها، دون مراعاة النتائج الوخيمة، يضاعف من التحديات التي لا أظن أن أولي الأمر، ممن يخططون لسياسات كهذه، براغبين فيها، مثلما لا أظن أنهم جَديون تماماً، في إظهارهم التحدي لمن يعترض عليهم هنا وهناك، وخصوصاً من خلال تحويل عموم القوى الاجتماعية إلى خنادق صراع متفجرة، وهم بعيدون عنها، وإذا حدث شيء كهذا، ونفّذ تماماً، فإن أبسط ما يمكن قوله، هو أن المستقدَم الضادي الذي يعِد ابنه بسكّر العيد، وفي المكان الموعود، لا يكون العيدَ الذي يُتصور بالتأكيد، مثلما أن أولي أمر سياسات كهذه، لن يكون آخرهم، كما هو المشتهى أولهم تخيلياً.
النفَّاج وحده،يغمض عينيه عما يجري حوله قليلاً أو كثيراً، ولا أتلمس في إغماض العين سوى السقوط المدوّي تاريخياً لهذا النفاج، عاجلاً أو آجلاً !