جان كورد
كلما اقتربت الانتخابات التشريعية التركية ازدادت حاجة الأحزاب التركية، حتى العنصرية الفاشية منها، إلى أصوات الكورد الانتخابية، إذ أن هذه الأصوات كثيرة للغاية، حتى في كبرى المدن، مثل إستانبول وأنقره وازمير وبورصا في غرب تركيا، بحيث تؤثر في ميزان القوى بين الأحزاب المتنافسة على المقاعد النيابية، ومنها حزب العدالة والتنمية للسيد أردوغان، الذي يحظى باستمرار على أغلبية أصوات الناخبين الكورد لاستغلاله الشعور الديني القوي لديهم، كما جرى في الانتخابات السابقة.
حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ سنواتٍ عديدة، لم يتمكن من التقدم بجرأة لحل القضية الكوردية في البلاد، فتراجع عن وعوده وزعمه أنه وحده القادر على تحقيق السلام بين الحكومة والكورد، وأنه سيفتح الباب لحوارٍ وطني جاد وسيفسح المجال لأن يتمتّع الكورد بحقوقهم ضمن إطار الدولة التركية.
والسبب في عدم تحقيقه ما وعد به من إصلاحات وسلام يكمن في أسلوبه غير المنتج في التعامل مع الكورد وفي السياسات المضطربة له في كافة المجالات، في العلاقات الدولية والداخلية للرئاسة التركية والحكومة التي تطغى عليها سياسة الحزب الواحد، حتى مع أقرب الحلفاء في واشنطن وفي قيادة حلف النيتو وفي بروكسل عاصمة الاتحاد الأوربي وفي إسرائيل والعالم العربي أيضاً.
ظن بعض الكورد بأن السيد أردوغان بحنكته وكونه من أصول غير تركية (جيورجي) وأفكاره الإصلاحية يملك مفتاح الحل لقضيتهم فدعموا حزبه في الانتخابات، إضافةً إلى شريحةً عظيمة من الكورد المسلمين وجدوا فيه أملهم لتحقيق ما يؤمنون به من مبادئ وأفكار دينية عن الأخوة والمساواة والعدالة، إلاّ أن السنوات الأخيرة قد أثبتت عدم وجود ثوابت في سياسات السيد أردوغان وثمة هزات متتالية في تعامله مع العالم الخارجي، مع المعارضة في البلاد ومع الصحافة والحريات السياسية بشكل عام، ومع الكورد بشكلٍ خاص، سواءً في تركيا أو في دول الجوار. كما لاحظ الكورد بوضوح تدخل الحكومة التركية السافر في شؤون جنوب وغرب كوردستان، وتحالفها حتى مع عدوها المذهبي العريق في إيران ضد الطموحات القومية للشعب الكوردي، وهذا بالتأكيد سيؤثّر سلباً فيما سيحصل عليه حزب العدالة والتنمية من أصوات انتخابية.
في مواجهة الحكومة، نجد حزب الشعب الجمهوري، حزب مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، الذي يترأسه كوردي علوي من ديرسم (تونجلي)، وهو من طرفه يحاول أيضاً كسب مودة الكورد بمختلف الأساليب، من دون أن تكون له خطة أو برنامج واضح المعالم لحل القضية الكوردية، إلاّ أنه سيحصل بالتأكيد على جميع أو أغلب أصوات الكورد العلويين في الانتخابات القادمة، والعلويون في تركيا وسوريا كانوا منذ البداية حلفاء لحزب العمال الكوردستاني الذي لايزال السيد عبد الله أوجلان رئيسه، رغم وجوده في السجن منذ 17 عاماً، وهو أحد مهندسي التحالف مع العلويين.
فكيف يسحب حزب العدالة والتنمية البساط من تحت أقدام المعارضة التركية، إن لم يلجأ إلى الكورد، الذين يفقدون الثقة به وبرئيسه يوماً بعد يوم، ويفضلون منح أصواتهم لحزب الشعوب الديموقراطية الذي حشرت الحكومة معظم مسؤوليه وكوادره الفاعلين في السجون، وفي مقدمتهم رئيس الحزب السيد صلاح الدين دميرتاش والمثقف الشهبر عثمان بايدمير، هذا الحزب الذي نجح في نيل أصواتٍ كثيرة حتى في غرب تركيا، وتمكن من ارسال 80 نائباً إلى البرلمان في الانتخابات السابقة؟
الحرب خدعة، إلا أن في السياسة شتى صنوف الخداع، فإن السيد أردوغان يتقلّب في مغامراته السياسية كل يوم، يرسم الخطوط الحمر ثم يتجاوزها بنفسه، يلعن الشيطان ثم يعانقه، يسعى لإسقاط جاره ثم يعلن أنه مستعدٌ للاعتراف به مجدداً في حال مساعدته في نسف المشروع الكوردي، يؤكد على أنه مع القضايا العربية ثم يسعى لضربها بعضها ببعض ويحشد قواته للدفاع عن إحدى دول العرب في مواجهة الأخرى، وفي حين أنه يحتل مناطق من دولة عربية أخرى… كما يهدد باحتلال الموصل وكركوك بذريعة أنهما كانتا قبل قرنٍ من الزمان تابعتين للدولة العثمانية، في حال إعلان الكورد في جنوب كوردستان استقلالهم، ثم يعود ليقول بأن تركيا تسعى لعلاقاتٍ جيدة مع الكورد ومع الحكومة الاتحادية في بغداد. وهنا تأتي أهمية “حرية أوجلان” لاستمرار كسب أصوات الكورد في الانتخابات التشريعية القادمة في تركيا، إذ لم يبق لدى السيد أردوغان أوراق لعب أخرى يلعب بها داخلياً، بعد أن فشل في استعادة السيد فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب العسكري الأخير من الولايات المتحدة، كما فشل في رفع قيمة الليرة التركية التي تهبط نحو الأسفل باستمرار، مما يضر باقتصاد “الإزدهار والتنمية”، وفشل في وقف الدعم العسكري الأمريكي لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي تعتبره الحكومة التركية إرهابياً، كما فشل في أن يحشر نفسه بين الكورد وحكومة العبادي في بغداد، إضافةً إلى فشله الكبير في ضم تركيا للاتحاد الأوربي، وتراجعه تحت ضغط الروس والإيرانيين عن السعي لإسقاط نظام الأسد.
ولذا، فمن المحتمل أن تفرج الحكومة في أنقره عن السيد عبد الله أوجلان، بشرطٍ واحد، هو أن يسعى للضغط على قيادة حزبه في جبل “قنديل” في جتوب كوردستان لدفع الجماهير الكوردية في تركيا إلى دعم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة وليس حزب الشعوب الديموقراطية التي لن تصب أصوات نوابه لصالح الحزب الحاكم لأسباب عديدة.
لذا، أرى أن المطالبات العديدة والواسعة لمؤيدي وأنصار السيد أوجلان بحريته في الداخل التركي وفي العالم الحر الديموقراطي وسواه ستلقى تأييد حزب العدالة والتنمية بعد الآن بحكم الضرورة والمصلحة المشتركة، وقد يساعد حزب العدالة والتنمية عدوه الآيديولوجي حزب العمال الكوردستاني في موضوع الإفراج عن السيد أوجلان، لأن “حرية أوجلان” في نظر حزبه أهم حدثٍ في الكون، وخروجه من السجن يلقي عليه كرئيس مسؤولية التخلي عن البندقية في مواجهة الدولة، فيسهل على الشباب العودة إل منازلهم ونسيان مسألة الكورد وكوردستان التي تخلى عنها الرئيس منذ اختطافه واعتقاله.
وعليه، يجب التنسيق بين مختلف الأحزاب الكوردية في شمال كوردستان لإيجاد صيغة جديدة للعمل المشترك فيما بينها ووضع خارطة طريق ترغم بها حزب العدالة والتنمية على التفكير الجاد للشروع في حوار وطني شامل على أساس أن القضية الكوردية صارت قضية أساسية من قضايا البلاد بعد مرور ما يقارب التسعين عاماً على إعلان الجمهورية على أساس العرق الواحد واللغة الواحدة وثبت فشل ذلك، فلو كان المشروع التركي القومي ناجحاً لما شعر حزب العدالة والتنمية بالخطر على الأمن القومي التركي من قيام دولة كوردية صغيرة على حدودها.
24 تشرين الثاني، 2017