ماجد كيالي
ذكّرت عملية الاستفتاء في «كردستان» العراق، التي جرت أخيراً، بعديد من الأساطير أو الادّعاءات التي أُسّست عليها السياسة العربية، وأخصّها بالذكر هنا مسألتان: الأولى، سعي الغرب، أو الدول الغربية (الإمبريالية)، إلى تقسيم هذه الدولة العربية أو تلك، استمراراً لسياسة «فرق تسد» المعروفة، والموروثة عن العهود الاستعمارية. والثانية، تفسير كل شيء بالقياس لإسرائيل.
في المسألة الأولى، من الواضح أن تفسيراً كهذا ينطلق من رؤى سطحية، وجامدة، ومن يقينيات غير صحيحة تاريخياً، إذ أن العالم العربي، كمصطلح، وكدلالة، لم يتمظهر في دولة، أو دولة – أمة، في أي من الحقب التاريخية، أما الحقب الإمبراطورية (الأموية والعباسية)، فلم تعرّف على أنها كذلك، إذ لم تكن الفكرة القومية قد ظهرت بعد، وكنا إزاء دولة إسلامية، وحتى هذه لم تعمّر طويلاً، ناهيك بوجود أقاليم خارج هذا التوحد الجغرافي.
ثانياً، لا يجوز التعامل مع الظواهر أو الاستراتيجيات الدولية باعتبارها ثابتة، إذ إنها تخضع لسنن التغيّر، ولتطورات النظم السياسية والاقتصادية والأمنية، وتطورات العلوم والتكنولوجيا. والفكرة هنا أن ظاهرة الاستعمار في شكلها الكلاسيكي انتهت، وانتهت معها الاستراتيجيات المتبّعة في إخضاع الشعوب، وضمن ذلك السيطرة على شعب آخر بقوة جيش الدولة المستعمِرة، ونهب الثروات الطبيعية، إذ باتت ثمة وسائل أخرى للسيطرة والإخضاع، وباتت الدول المستعمَرة سابقاً حريصة على كسب ودّ الدول المستعمِرة سابقاً، أو الدول الإمبريالية، وفق المصطلحات اليسارية، وتشجيعها للاستثمار فيها والاستفادة من ثرواتها.
في المقابل، لم تعد الدول الإمبريالية معنيّة بتجزئة الدول، بل باتت، في عصر العولمة، معنيّة بتوحيد الأسواق، وإزالة التعقيدات التجارية.
ثالثاً، أثبتت تجربة العراق صحّة الاستنتاج السابق، إذ إن الولايات المتحدة، التي غزت هذا البلد وأسقطت نظامه (2003)، لم تكتف فقط بالخروج منه، وإنما سلمته حتى لإيران، التي يفترض أنها في عداء معها (في إطار استراتيجية تتعلق بالاستثمار الأميركي بإيران)، كما أكدت أنها غير معنيّة بتقسيم العراق جغرافياً ودولتياً. وتم تأكيد هذا الاستنتاج مجدّداً بعدم دعم الولايات المتحدة لخطوة مسعود بارزاني، المتمثلة بالاستفتاء على استقلال الإقليم.
رابعاً، في غضون كل الادعاءات عن الوحدة، وعن سياسة فرق تسد الاستعمارية والإمبريالية، يفوت البعض أن مشكلة الوحدة داخلية أكثر منها خارجية، وأنها لا تختزل بالجغرافيا، أو بالدولة، وحدها، حيث التركيز يفترض أن يتوجه ليس على الوحدة الترابية فقط، وإنما على الوحدة المجتمعية أساساً، فلا أهمية لوحدة جغرافية في بيئات اجتماعية متخاصمة، أو متحاربة، لأنها قسرية، وتقوم على الغلبة، وإخضاع مكوّن لمكون أخر.
أما في خصوص المسألة الأخرى، فتبيّن بالتجربة، أي ليس بالتحليل وحده، أن إسرائيل تتلاعب بقضية الكرد، وأن كثراً وقعوا في المطبّ الإسرائيلي، ولو عن غير قصد، فأضرّوا بقضيتهم، أي قضية الحرية والحق والعدالة، كما أضرّوا بقضية الكرد المشروعة والعادلة، من حيث المبدأ، بغض النظر عن التفاصيل. وهذا البعض كان كمن يقدم هدية مجانية لإسرائيل بإثارة الشبهات حول العلاقة العربية- الكردية، بدل توثيق عراها، بالاعتراف بالظلم التاريخي الواقع بحق الكرد، جراء الاتفاقيات الجائرة وسياسات الأنظمة الاستبدادية التي صادرت حقوق المواطنة للجميع، عرباً وكرداً.
المؤسف أن وجهات النظر التي تناهض تصحيح التاريخ، وتناهض حق الأكراد، تماهي بينهم وبين إسرائيل، متناسية أن الكرد جزء من شعوب المنطقة، بثقافتها وتاريخها، وأنهم تكوّنوا فيها عبر التاريخ، ولم يهبطوا بالبراشوت، فيما إسرائيل قامت باعتبارها امتدادا للظاهرة الاستعمارية، وبواسطة الهجرة والاستيطان، وبوسائل القوة، منذ مطلع القرن العشرين. ثم أن الكرد قومية بكل معنى الكلمة، مع لغة وثقافة وفولكلور ورموز متميزة، في حين أن اليهودية دين، وليست قومية، على رغم محاولات الصهيونية إضفاء صبغة قومية عليها، وتالياً، فإن اليهود الإسرائيليين يتحدرون من دول ومن ثقافات عدة. والقصد أن «تشاطر» البعض بوضع حق تقرير المصير للكرد مقابل حق تقرير المصير لإسرائيل أو للإسرائيليين غير موفق، لأننا في الحالة الثانية إزاء دولة استعمارية وعنصرية ودينية، وأن المسألة الأساسية في هذا الأمر تتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
على أية حال، ففي نقاش المسألة الكردية ثمة انحرافان أو عصبيتان خاطئتان: الأولى، ناجمة عن عصبية قومية- عربية، هي نتاج ثقافة النظم الاستبدادية، ومفادها أن أي دولة كردية هي بمثابة إسرائيل ثانية، علماً أن هكذا أنظمة هي التي سهلت وجود إسرائيل وتميزها وتفوقها في المنطقة. والثانية ناجمة عن عصبيّة قومية- كردية ومفادها أن إسرائيل ليست عدوة للكرد، فلماذا يعادونها؟ أو لماذا تقيم بعض الدول العربية علاقة مع إسرائيل ويحظر ذلك على الكرد؟ وفي العموم فإن هذا الكلام المرسل مضر بالجهتين، وهو خاطئ، أيضاً.
فقيام دولة كردية (بغض النظر عن تفاصيلها) أمر طبيعي، وإحقاق لحق مستلب، مثل حق الفلسطينيين، ثم إن قيام دولة مثل هذه قد يصحّح أحد أخطاء القدر، وقد ينظم علاقات أفضل بين شعوب المنطقة، علماً أن الدولة القومية لم تعد النموذج المحتذى، بعد كل التجارب، والحل الأمثل، في عصرنا هذا، بات يتمثل بوحدات سياسية أكبر، وبنظم تقوم على الدولة ـ الأمة، مع مواطنين أحرار ومتساوين، في دولة ديموقراطية.
ناحية أخرى يفترض تأكيدها هنا، وهي أن الدول ليست معطى سماوياً، أو أبدياً، وإنما هي معطى تاريخي، نشأ في مرحلة معينة، فإلى عقود مضت لم تكن هناك دول اسمها الأردن أو قطر أو سورية أو فلسطين، مثلاً. أما قصة الدعم الإسرائيلي للكرد، أو لبعض جماعاتهم، فهذا نتاج سياسة إسرائيلية قوامها الاستثمار في تناقضات البلدان العربية، الأمر الذي ينبغي ادراكه وتفويته في توثيق العلاقات العربية- الكردية، لا في توسيع الفجوات فيها.
في المقابل، يفترض بالجماعات الكردية التمتع بإدراكات أفضل لمرامي إسرائيل، والتعامل معها باعتبارها دولة استعمارية استيطانية وعنصرية ودينية، وباعتبار أن أصحاب القضايا العادلة يتضامنون مع بعضهم، إذاً الفلسطينيون أكراد بمعنى ما، والأكراد فلسطينيون بمعنى ما، أيضاً، وباعتبار أن قضايا الحرية والعدالة والحقيقة لا تتجزأ.
المصدر: الحياة اللندنية
الأحد: 12-11/ 2017