خوشناف سليمان
مبدأ حق تقرير المصير للشعوب (حق الإنفصال) أو منع هذا الحق هما وجهان لعملة واحدة، يتم حسمه وفق تعقيدات المشهد السياسي والملفات السياسية العالقة بين طرفي المعادلة (المركز والاقليم)، إما بالإعتراف به أو برفضه. إيجاد التوازن بينهما هو أمر في غاية الأهمية، بحيث يضمن الحرية للأول والسلام للثاني. فإذا ساعد الإنفصال على حل النزاعات فأنه أمر حسن، لكنه إذا أفضى إلى التصادم وتأجيج الصراع، فأنه أمر سيئ. في هذا السياق العام جاءت خطوة الإستفتاء على إستقلال كردستان العراق، حيث تباينت آراء وردود الفعل العالمية والاقليمية حولها. فروسيا دعت إلى تحقيق التطلعات القومية للكُرد، وفرنسا إلى توطيد الاستقرار، وأمريكا خذلتهم، واسرائيل أيدته. ومن المفيد هنا ذكر موقف الرئيس الألماني فرانك شتاينماير، الذي جاء في معرض رده على سؤال قمتُ بطرحه سابقاً على الساسة الألمان حول مدى تأييدهم لحق تقرير المصير لأكبر شعب في العالم بدون دولة؛ جاء فيه “.. أن ألمانيا ومعظم دول العالم قد أعربوا بوضوح عن معارضتهم لخطوة الإستفتاء على إستقلال إقليم كردستان-العراق، إذ من شأنها أن تؤدي الى زعزعة استقرار المنطقة بشكل متزايد..أن سلامة العراق هو أمر في غاية الأهمية لمستقبل جميع مكوناته”!
المواقف الآنفة الذكر هي دون شك تجسيد لما يسمى بسياسة “ازدواجية المعايير”، والتي تعني اتخاذ موقفين متناقضين من قضية واحدة، وهي سياسة تخالف مبدأ العدالة المعروفة باسم الحياد، وتنشأ نتيجة تضارب مصالح الدول وتباين أدوارها. ومن هنا يأتي التشكيك بمصداقيتها بسبب تعارضها مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، المُتمثل في إن جميع البشر أحرار ومُتساوين في الكرامة والحقوق، كما تتناقض مع المبدأ الوارد في ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها وتحديد مركزها السياسي وحريتها في تأمين نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك عبر ممارسته بالوسائل الودية والديمقراطية، مثل الاستفتاء (ريفرندوم). من هذا المنطلق فأن دعوة المجتمع الدولي إلى تأجيل الاستفتاء وإحترام وسيادة الدستور حفاظاً على الاستقرار، تندرج في خانة الرياء والهزل. إذ أن الدساتير سُنت للحفاظ على كرامة الإنسان وتكريس وسمو القيم الأخلاقية للقانون. فالأمر هنا لا يتعلق بسيادة الدستور، بقدر كونه ذريعة لمعاقبة المتمردين على ظلم الواقع. وعليه فأن الكُرد، في كل زمان ومكان، هم ضحية “دساتير” أنظمة إستبدادية في المنطقة، التي تنتهك كل يوم بما لا يسمح به القانون الدولي، وعرضة لخديعة وجور المعاهدات والمواثيق الدولية منذ سايكس-بيكو وحتى الآن، تجمعهم، رغم التباين، وحدة الصف إزاء الحق الكردي في الإستقلال!
تاريخياً، تبلورت فكرة إستقلال وتشكيل الدولة القومية الحديثة خلال القرن الرابع عشر الميلادي عندما تمكن فرنسا وأسبانيا من إخضاع سلطة الكنيسة والإقطاع لسيطرتها، وترسخت على ارض الواقع بعد معاهدة فيستفاليا في منتصف القرن السابع عشر. ولعل من المفيد هنا وبهدف المقاربة والمقارنة، تسليط الضوء على تجربة بلغاريا وكوسوفو في نيل الإستقلال.
تجربة بلغاريا:
بعد إنتهاء الحرب الروسية التركية (1877-1878) والتغيرات الحاصلة، تمت بمقتضى معاهدة برلين (1878) تسوية أوضاع الإمبراطورية العثمانية بشكل سلمي. وبسبب عدم استعدادها في خوض حرب شاملة ونزولا عند رغبة روسيا، محررة البلاد، تركزت جهود القوى الكبرى آنذاك على الإعتراف بإستقلال بلغاريا بحكم الأمر الواقع. فكان ذلك بداية التحرر من نير الاستبداد العثماني وبداية تحطيم قيود العبودية الممتدة لخمسة قرون. بعد مرور نحو ثلاثة عقود من الزمن، أعلنت بلغاريا إستقلالها في سبتمبر 1908، تلبية لرغبة وإرادة الشعب في أن يكون حراً كريماً، فهددتها الدولة العثمانية بشن حرب واسعة عليها، فقامت بلغاريا بحشد وتعبئة قواتها العسكرية، معلنة في الوقت ذاته إستعدادها للتوصل الى تسوية سلمية. في أبريل 1909 إعترفت الدولة العثمانية والقوى العظمى بإستقلال بلغاريا وأُنشئت دولة فتية متساوية الحقوق والواجبات في صفوف الأمم. هنا تجدر الإشارة إلى أن بلغاريا قامت بأعلان إستقلالها من جانب واحد، منتهكة بذلك قوانين الإمبراطورية العثمانية السارية المفعول آنذاك. وقبل ذلك، قامت بضم مناطق روميليا الشرقية، المتنازعة عليها إلى حدودها الجديدة بشكل إنفرادي وفي تناقض واضح مع بنود الإتفاقيات الدولية الفاعلة. جرى كل ذلك حتى دون اللجوء إلى إجراء أي إستفتاء أو تشاور مع الطرف المعادي. وهو دليل آخر يثبت بوضوح، أن معظم الأحداث والوقائع التاريخية تجري خارج إطار القانون، ولكنها تحدث! او كما يقول بيسمارك، يتم ابرام الاتفاقيات، كي ينتهكها الاقوياء فيما بعد. لذا فأنه من السخف أن تجد اليوم أصواتاً تعارض إستقلال الشعوب بحجة سيادة القانون.
تجربة كوسوفو:
بعد سقوط الأنظمة الشمولية في اوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، استيقظت النزعة الانفصالية لدى شعوبها، الباحثة عن إستقلاليتها العرقية. فتفككت دولها إلى أجزاء متناثرة وتغيرت الخارطة السياسية للمنطقة وظهرت دول جديدة من ضمنها إنشقاق كوسوفو عن صربيا وذلك بعد سنوات من الصراع والعنف المرير. ورغم معارضة صربيا لعملية الإنفصال فقد أعلنت كوسوفو إستقلالها في 17/02/2008 ودعت حكومات العالم إلى الاعتراف بها. كانت ولادة الدولة الفتية بمثابة إنفجار بركاني، حيث أثارت جدلاً كبيراً في أوساط المجتمع الدولي رغم وجود إجماع شبه عالمي على نشأتها. من وجهة نظر سياسية، مثلت حالة متناقضة، كونها لم تكن في الماضي كيان سياسي قائم بحد ذاته، مما أدى إلى خلق سابقة فريدة، خشت بلدان عديدة أن تنعكس سلباً على مناطق مماثلة لها ومعرضة للنزاع. لقد جاء في إعلان الإستقلال: “نحن ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطيا، نعلن أن كوسوفو دولة مستقلة وذات سيادة، جمهورية ديمقراطية علمانية ومتعددة الأعراق وبما يتوافق مع توصيات الممثل الخاص للأمم المتحدة مارتي أهتيساري”. في 18/02/2008 صوت مجلس النواب الصربي على رفض الإعلان، وذلك بناء على عرض قدمته الحكومة، وكذلك أكدت المحكمة الدستورية للبلاد بأن الإجراء يفتقر إلى السند الدستوري ويعد مخالفا للدستور الصربي ولميثاق الأمم المتحدة. ووجهت صربيا تهديدات بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أي بلد يعترف بكوسوفو، باعتبار أن ديباجة الدستور الصربي تنص على أن أقليم كوسوفو “جزأ لا يتجزأ” من صربيا وأنها منطقة ذات حكم ذاتي داخل الجمهورية. على إثر ذلك حثت دول عديدة الأطراف المتناحرة على ضرورة مواصلة المفاوضات بهدف التوصل إلى إتفاق يرضي الطرفين، بينما أكدت دول أخرى، مثل روسيا، على أن إعلان الإستقلال من جانب واحد يمثل إنتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي ولقرار الأمم المتحدة بشأن كوسوفو. في 28/02/2008 كانت ألمانيا أول دولة إعترفت بإستقلال كوسوفو، تلتها السويد وبلدان أخرى، بلغ عددهم حتى الآن 108 دولة من أصل 193 أعضاء فى الامم المتحدة، من ضمنها 23 دولة من أصل 28 أعضاء في الاتحاد الاوربى.
استفتاء استقلال كردستان العراق:
في شهر يوليو 2014، أعلنت قيادة أقليم كردستان العراق عن نيتها في اقامة استفتاء الاستقلال، ولكنه لم ينعقد بسبب هجوم داعش على الأقليم والإستيلاء على الموصل ومناطق اخرى خلال شهر أغسطس من نفس العام. فيما بعد تمكنت قوات الـبيشمركة الكردية في الحرب على التنظيم الارهابي من السيطرة على مدينة كركوك ومناطق كردستانية اخرى. وبعد عزل نوري المالكي في شهر سبتمبر سنة 2014، وافق قادة الكرد على تأجيل الاستفتاء إلى وقت آخر للتركيز على محاربة الارهاب. وتم التوصل إلى اتفاق بعقده بعد تحرير مدينة الموصل. في أغسطس 2016، قال رئيس وزراء العراق حيدر العبادي بأن حكومته لن تعمل ضد الاستفتاء على الاستقلال الكردي واعتبر تقرير المصير حقاً “بلا منازع”. وفي هذا االسياق يجب التنويه إلى أمر في غاية الأهمية والخطورة، أنه حينما أعلن الكُرد عن رغبتهم في اجراء الاستفتاء، قامت الجهات المعادية للكرد بتحريك قوات داعش تجاه الموصل واقليم كردستان. وقد استطاعت، رغم ضآلة عددهم، وفي غضون أيام قليلة بالسيطرة التامة على الموصل، بعد هزيمة الجيش العراقي وفراره من المدينة، تاركاً ورائه أسلحته الأمريكية الحديثة ومبالغ مالية ضخمة في بنوكها. في الواقع كان ذلك بمثابة تواطؤ، حُبك في الخفاء بين أعداء الكُرد كان يستهدف بالدرجة الاولى تدمير إقليم كردستان العراق وتوجيه رسالة تحذير إلى قيادته بالتخلي عن فكرة الإستقلال. ولولا دعم أمريكا والدول الغربية آنذاك، لأستطاع التنظيم الإرهابي من إحتلال الإقليم وتنفيذ مجازر بحق سكانه.
تاريخياً، كان من المفترض إقامة دولة كُردية منذ معاهدة سيفر عام 1920، لكنها أُلغيت بموجب معاهدة لوزان عام 1923. في الوقت الحاضر يعد الكُرد أحد أكثر شعوب العالم تشتتاً، بعد تعرض موطنهم للتجزئة والإستيلاء من جانب الفرس الصفويين والاتراك العثمانيين ودولة العراق وسوريا، لقطاء اتفاقية سايكس-بيكو السيئة الصيت. جميعهم يسعون وبكل طاقاتهم إلى محو الوجود الكُردي التاريخي على هذه البقعة من العالم. ورغم تعرضهم للظلم والإضطهاد، وتعاطف العالم مع رغبتهم في الإستقلال، يرى الجميع بأن قيام مثل هذه الدولة في الوقت الحالي ستكون بمثابة خطوة تؤدي إلى إنهيار خريطة الدول الجيوسياسية القائمة، وما سيترتب عنه من تداعيات وإنعكاسات على أمن وسلامة العالم أجمع! ومن البديهي أن نخبة العالم السياسية ليست في عجلة من أمرها لإعادة ترسيم الحدود المرسومة على الرمال في المنطقة. الكُرد أيضاً يدركون، دون شك، صعوبة تحقيق مطلب إقامة الدولة المستقلة، بسبب تقاطع مصالح وحسابات أمريكا والعالم الغربي والدول الاقليمية في المنطقة.
على هذه الخلفية ومع تفاقم الخلافات بين أربيل وبغداد على قضايا النفط والمناطق المتنازع عليها، ازدادت ضغوط الجماهير الكردية على قيادتها بإجراء إستفتاء الإستقلال. فتم تحديد موعد الاستفتاء بتاريخ 25/9/2017، ورغم المحاولات والجهود الرامية إلى إلغائه، لكنه تحول إلى فعل حقيقي، حيث صوت أكثر من ٩٢% من سكان الإقليم لصالح الإستقلال. ومهما يكن وبغض النظر عن هول الصدمة، الناشئة من ردود الفعل السلبية من دول العالم، والتي تزامنت مع التهديدات العسكرية لدول الجوار، تم تثبيت ملحمة الاستفتاء في سجلات التاريخ مع إرجاء قضية الاستقلال إلى وقت لاحق. بعد ذلك وقبيل وأثناء إحتلال كركوك ودخول الميليشيات الايرانية إلى المدينة وإلى المناطق الكردستانية الاخرى، تراجع حماس الدول العظمى وخاصة امريكا في دعم قضية الاستقلال الكُردي! حدث ذلك بعد كل التضحيات الكُردية، والتي كانت في جزئها الأعظم في خدمة مصالح تلك الدول. فقام “الحلفاء” بخذلان الكُرد مرة اخرى وتخلوا عن حليفهم أمام هجمة الحشود الايرانية-التركية-العربية البربرية. وهي دلالة، كما يبدو، أن حلفاء الأمس لا يريدون ولا يحتاجون الى كُرد أحرار، أنما يسعون إلى إستخدامهم وتحريكهم كقطع الشطرنج في أوقات الشدة.
الكُرد في كل مكان يقفون اليوم أمام منعطف خطير وعلى عتبة مرحلة فاصلة مليئة بتحديات جمة، والتي تولد أسئلة جوهرية: ما هو أفضل مخرج ممكن؟ هل يمكن التوصل إلى إتفاق مقبول مع الجيران؟ أم أن إعلان الإستقلال من جانب واحد هو أفضل حل ممكن؟ رغم مرارة الواقع الناشئ وبغض النظر عن النتائج، فأن رد الكُرد يجب ان يكون حاسماً، وأن يتماشى مع ما قاله الزعيم الكُردي مسعود برزاني في وقت سابق: “لقد حان الوقت لنحدد مصيرنا ويجب ألا ننتظر أن يحدده لنا الآخرون”. إلى ذلك الحين، فأن دقات قنبلة سايكس بيكو الموقوتة تزداد سرعة ودقاً، وفي حالة انفجاره ستخلف دماراً و ركاماً.