أحمـــــد قاســـــم
من دون الدخول في تعقيدات المراحل التاريخية التي أوصلت بإقليم كردستان العراق إلى مستوى من جلب الإهتمامات الدولية التي تتصارع على المنطقة التي تعوم على بحر من النفط ومكامن كانت غير متوقعة من حيث الحجم من الغاز, وبالتالي, رأت تلك الدول في العنصر الكردي الذي يبحث عن ” نسمة استنشاق من الحرية ” وسط دولٍ تحكمها أنظمة قد تكون أشد عنصرية تجاه الآخر من جهة, ومن جهة أخرى باتت أطماعها تتجاوز حدود الإستحقاقات التي سمحت لها المنظومة الدولية لإستمراريتها على رأس الحكم, رأت تلك الدول النافذة في العالم بأن التغيير في الوضع الكردي ومساندته قد يكبح فلتان أطماع تلك الأنظمة ودفعها نحو التدجين مرة أخرى.
كردستان العراق من حيث الموقع الإستراتيجي وسط منطقة ” الجالبة للأطماع ” والمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى الصناعية وفي مقدمتها أمريكا وروسيا رشحتها أن تكون محط الإهتمام والأنظار بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت من الإحتلال العراقي لها. حيث رأت أمريكا بشكل خاص أن التنامي في القوات الإيرانية والعراقية بفعل واردات النفط واستخدامها لبناء ترسانات من الأسلحة الإستراتيجية في المستقبل ستشكل خطراً حقيقياً على المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة, وبالتالي, كان لابد من أن تبحث الولايات المتحدة الأمريكية من موطىء قدم لها في المنطقة لمراقبة أي تطور قد تعيق سبيلها في الحفاظ على مصالحها أولاً, وكذلك الحفاظ على المنظومة الدولية المعتمدة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. فاختارت الولايات المتحدة إقليم كردستان العراق لطالما أنها حظيت بحماية دولية بعد الهجرة المليونية عام 1991 بقرار 688 من الأمم المتحدة وهي تتوسط بين دولٍ ذات إعتبارات إقليمية في المنطقة كتركيا وإيران والعراق إلى جانب قربها من منطقة الخليج المهددة من قبل إيران.
بعد إسقاط نظام صدام حسين وإنهيار منظوماته الأمنية والعسكرية من قبل أمريكا عام 2003, خطت القيادة الكردية في إقليم كردستان نحو بغداد بدعم أمريكي لبناء حكومة فيدرالية تعددية تحظى إقليم كردستان بحكم فيدرالي يسانده دستور جديد للعراق يتم صياغته بشكل توافقي بين الأحزاب الرئيسة الفاعلة وبدعم أمريكي أيضاً. وبالتالي, تم صياغة ذلك في عام 2005 وعرضه للإستفتاء المباشر من الشعب العراقي وحصل على موافقة %83 من الشعب العراقي على مرئى تلك الدول الإقليمية والتي كانت غير راضية بكل ما تجري من المتغيرات في العراق, في مقدمتهم تركيا وإيران.
إيرانياً, كانت ترى إيران بأن إسقاط نظام صدام حسين وانهيار منظومته العسكرية فرصة للتدخل من خلال التنظيمات الشيعية التي كانت بالأساس تتحرك بدعم ومساندة من النظام الإيراني. ولما كانت الشيعة تشكل النسبة الأكبر من المكونات العراقية عرقياً ومذهبياً فإن الطريق سالك وبسهولة إلى استلام الحكم بعد الإنسحاب الأمريكي من العراق, وبالتالي عمدت الحكومة الإيرانية وبمساعدة مرجعياتها الدينية إلى تحشيد القوة والدعوة إلى الجهاد ضد ” الإحتلال الأمريكي ” بحسب وصفها. ومع الإنسحاب الأمريكي عام 2011 كانت إيران تتحكم بمفاصل الحكم في بغداد وهي من تحدد شكل الحكومة ورئاستها…. وذلك مع تغييب السنة وإهمال الدستور مع المراوغة في تنفيذ المواد التي تخص الجانب الكردي وإقليمه الفيدرالي. ومن دون الخوض في معمعان تعقيدات العلاقة بين هولير وبغداد المفتعلة والمصطنعة من الجانب الإيراني وفرضها على حكومة المالكي وكذلك العبادي, فإن العلاقة وصلت إلى مستوى خطير في الآونة الأخيرة بعد التطورات التي حصلت في سوريا ووقوف حكومة الإقليم إلى جانب التقارب التركي للأزمة في سوريا, والذي كان يُغْضب طهران, وبالتالي, فَعّلت الخلافات بين الإقليم وبغداد من جهة, ونشّطَتْ من عملية تدخلاتها الإستخباراتية في الإقليم لضرب وحدة الصف بين القوى والأحزاب الكردية المؤتلفة في الحكومة إلى جانب إلزام حكومة المالكي بقطع مستحقات الإقليم من واردات النفط ومحاصرته في أزمة إقتصادية قد تؤدي إلى إنفجار جماهيري ضد الحكومة في هولير.
تركياً, كانت تركيا في بداية العملية السياسية في العراق (أي بعد إسقاط نظام صدام حسين) تبدي إمتعاضها ومعارضتها لما تجري من التوافق السياسي وإعتماد النظام الفيدرالي, وخصوصاً القبول دستورياً على أن يكون إقليم كردستان إقليماً فيدرالياً, إلا أنها كانت عاجزة عن فعل ما يُفْشَلَ به تلك العملية لطالما أن أمريكا هي الراعية لتلك العملية, إلى جانب ضُعْفِ أجنداتها من التركمان في الداخل العراقي والتي كانت عاجزة عن الوقوف ضد فدرالية العراق وكردستان. وكانت الأنباء تتردد على صفحات الجرائد حتى التركية منها في حينها على أن أمريكا تنوي نقل قاعدة أنجرليك على الأراضي التركية إلى كردستان إن عارضت تركيا السياسة الأمريكية في المنطقة والعراق بشكل خاص.. ومن جهة ثانية رأت الحكومة التركية أن التواجد الأمريكي العسكري في العراق ضمانة لوقف التدخلات الإيرانية الشيعية على حساب السنة وخاصة التركمان الذي يشكل الصاعد التركي في الداخل العراقي, ومع كل ذلك, كانت تركيا تتحسب لما هو قادم قد يتطور الإقليم الكردي من الحكومة الفيدرالية إلى إعلان دولة مستقلة بدعم أمريكي, وبالتالي, كانت رضى الحكومة التركية بالأمر الواقع الفيدرالي تأتي من حساباتها الداخلية والإقليمية والدولية ( أي أنها كانت مجبرة في حقيقة الأمر ولو مرحلياً ).
مع بداية الأزمة في سوريا تحت عنوان ” ثورة الحرية والكرامة ” وانسحاب أمريكا من العراق, أهملت الولايات المتحدة الأمريكية كل الدعائم لإستراتيجيتها التي كانت قد اختارتها حكومة ( جورج بوش الابن ) ومن ضمن تلك الدعائم الحالة الكردية في إقليمه الفيدرالي قبل أن تستقر العراق والثبات على المباديء الدستورية وخاصة تلك التي تحدد العلاقة بين هولير وبغداد, وفي مقدمة تلك المباديء المادة 140 من الدستور التي تحدد عملية حل الخلافات في المناطق المتنازع عليها وخاصة (كركوك) الغنية بالنفط… والتي كانت لإيران وتركيا الدور الفاعل في إهمال تطبيق تلك المادة لمعرفتهما مسبقاً بأن كركوك جزءاً من كردستان وأن إلحاقها بالإقليم يعني أن دعائم إعلان الدولة قد تتحقق, وبالتالي, كان عليهما أن تعملا سوية بأن يتم إهمال المادة لطالما أمريكا أصبحت بعيدة عن مركز القرار العراقي وتفصيلاته.
مع وجود “داعش” وما توصلت إليها في كل من سوريا والعراق, والإعلان الدولي الحرب عليها, والتي أدت في النتيجة تحرير الموصل والرقة وغالبية المناطق التي كانت قد وقعت تحت سيطرة قوات “داعش” بشكل تراجيدي غير مسبوق.. حيث أن الحرب ضدها باتت توشك على نهاياتها اختارت إيران الوقت النافذ لضرب العلاقة بين هولير وبغداد قبل إنتهاء أمريكا من إنشغالها في حربها ضد الإرهاب وتنفيذ ما قرر (دونالد ترامب) من قرارات ضد إيران, وخاصة هناك أنباء تؤكد على أن أمريكا تعمل بشكل جدي لبناء قواعد لها في سوريا والعراق من أجل بقاء قواتها لأمدٍ طويل. ومع إشتداد الأزمة وفقدان الثقة بين حكومة هولير وحكومة بغداد نتيجة للتدخل الإيراني المباشر وتفريغ قاسم سليماني لتحريك أجنداته في كل من العراق وإقليم كردستان دفعت بالحكومة في الإقليم إلى إتخاذ قرار لإجراء إستفتاء على حق تقرير المصير الذي يجب أن يقرره الشعب في كردستان… لكن ( جرت الرياح بما لاتشتهي السفن الكردستانية ), فلقد أسرعت الأنظمة الحاكمة في كل من أنقرة وطهران وبغداد متجاوزة كل خلافاتها لتتوحد ضد الإستفتاء الكردي على حقه في تقرير مصيره, وتهديد الحكومة الكردية على أنهم سيضربون كل ما حصل عليه الكرد من مكاسب فيما إذا أصرت الحكومة في الإقليم على إجراء الإستفتاء. كان ذلك في ظل رفض إقليمي ودولي لإجراء الإستفتاء بين إلغاء القرار وتأجيله.. إلا أن الحكومة في الإقليم بقيادة الرئيس مسعود البرزاني لم تخضع ولم تنصاع إلى التهديدات المختلفة, حيث تم إجراء الإستفتاء في وقته المحدد وذلك في 2592017.
ومع تنفيذ الحكومة العراقية لتهديداتها بدعم تركي وإيراني بطريقة عدوانية والهجوم الهمجي من قبل (الحشد الشعبي) الشيعي على كركوك مع الخلل في تماسك قوات البيشمركة تجاوباً مع الخلل السياسي بالأساس في الجبهة الداخلية الكردية تم الإستيلاء على كركوك وتهجير عشرات الآلاف من العائلات الكردية من كركوت ودوز خرماتو مع حرق البيوت والمحلات التجارية التي قد لاتختلف ما قام به الحشد الشعبي ضد الكرد عن الأعمال الإرهابية التي قامت بها “داعش” ضد الحياة والإنسانية. فقد فلتت قواتها بين المدن والأرياف وأصبحت تهدد هولير ودهوك إلى أن تصل إلى إبراهيم الخليل على الحدود التركية.. مما يعني أن العمل العسكري ضد الكرد قام به الحشد الشعبي وبدعم وقيادة إيرانية بإسم ( العبادي ) الذي أصبح أقل من جندي تحت امرة طهران من أجل القضاء على الإقليم الكردي وإلغاء مكتسباته أولاً, والقضاء على كل من يعيق السياسة الإيرانية للسيطرة على كامل الأراضي والشعب العراقي…
نتيجة للتطورات التي حصلت بعد إجراء الإستفتاء وكأن أمريكا, وكذلك بعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا وكأنها أصحت من غفوتها على الفعل الإيراني تجاه الكرد وإقليمه الفيدرالي تحقيقاً لسياساتها المعتمدة في المنطقة وتدخلاتها. فأسرعت كل من أمريكا وفرنسا لإرسال رسائل تتضمن في طياتها تهديدات حقيقية لتلك التدخلات في الشأن العراقي وخاصة الكردي في إقليم كردستان, وتقدمت أمريكا بشكل جديد لرعاية حوار يجب أن تبدأ به هولير وبغداد من أجل الوصول إلى حلول تحت سقف الدستور مع تنديدها لأعمال الحشد الشعبي الإرهابية ضد الكرد.
أما تركيا من جانبها وهي أيضاً أصبحت تشعر بالمخاطر الإيرانية التي تكمن في عملية سيطرة الحشد على المناطق التركمانية سعياً منها تهميش التركمان السنة من أية إستحقاقات نتيجة لتلك المتغيرات التي طرأت على الساحة. وحتى أن الشخصيات التركمانية التي يتم مشاركتها في مناصب يشترط أن تبايع الحشد وتعلن ولائها له بدلاً أن يكون ولائها لتركيا.
في القادم الأيام سيتغير المشهد باتجاه الحضور الأمريكي الجدي وانتاج ما يخدم العراق بعيداً عن التدخلات الإيرانية إلى جانب تثبيت ما تم تحقيق للكرد من مكتسبات دستورياً, وكذلك ظهور الخلافات الإيرانية التركية في كل من العراق وسوريا على السطح مع الفشل الروسي في عقد مؤتمر (سوتشي) لطالما أن أمريكا بعيدة عن عقد هذا المؤتمر. وأن عدم ممارسة تركيا الضغط على المعارضة لحضور المؤتمر هو مؤشر حقيقي في اتجاه بروز خلافات إيرانية تركيا, والآن تركيا تعود وتخفف من لهجتها تجاه إقليم كردستان تحسباً للغد الذي يحمل في طياته الكثير من الترتيبات التي قد تزعج تركيا إذا بقيت على موقفها تجاه الإقليم وسارت مع الساسات الإيرانية في كل من العراق وسوريا.
سيكون إقليم كردستان بعد 16102017 مختلفاً عن ما قبل ذلك التاريخ الذي سجل مشهداً لايقل عن مشهد الأنفال في ذاكرة الكرد, هذا إن استطاعت بغداد أن تبني الثقة من جديد مع هولير.
3/11/2017