إدريس سالم
كل ما يقوله مسؤولو ووزراء وقادة أمريكا وأوروبا على الإعلام بخصوص أزمات الشرق الأوسط، وضرورة تغيير الأنظمة المستبدّة، وتهيئة بيئات للديمقراطيات والحرّيات كذب ونفاق وتلاعب بالقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية؛ فيما كل ما تقوله أمريكا وتأمر به وتوقعه سرّاً – من تحت الطاولات – مع أيّ دولة توجد في جغرافيتها أزمة أو حرب أو صراع ما، هو الكلام الواقعي والصحيح، ويجب الانتباه إليه والحذر منه والأخذ به على مَحمل الجدّ، فعندما يضعون أيّ تنظيم أو قيادي في قائمة الإرهاب، فهم يتعاملون معه في السرّ بشكل شرعي، ولكن بطرق غير مباشرة «لمَ الغرب يُخلق الحروب في الشرق تحت راية نشر الديمقراطية، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟»، إلا أن السياسة هي الفنّ الممكن والمُتاح، وكل التحليلات والتوقعات والقراءات الكوردية للمشهد الأمريكي في الشرق الأوسط عامة وكوردستان خاصة، كانت مزيجاً من كثرة الخائبات وقلة الصائبات، إلا أن غالبية الكورد التوّاقة للاستقلال توقعت خيانة بعض قادة الاتحاد الوطني الكوردستاني، وأن حرب ما تنتظر كوردستان بعد استفتاءها، لكنها لم تحسب حساباً لتخاذل وصمت الموقف الأمريكي.
التطوّرات الأخيرة في ليلة 16 أكتوبر من حياة كوردستان أكدت وجود خيانة كوردية إقليمية دولية عظمى «إن لم تستطع أن تخدم وطنك، فلا تخونه»، خطّطت لها إيران، وفجّرتها عبر أدواتها ووكلائها الذين يدّعون الوطنية والكوردايتي «سيبصق تراب القبر وجه هيرو إبراهيم وآلاء وبافل ولاهور طالباني وكل خائن خان كوردستان»، وأكملتها جناحها العسكري في الحشد الشعبي الشيعي غير الشرعي، لتختلط الأوراق في الساحة الكوردستانية، بين صمت وحياد أمريكي، وتحرّكها السرّي السريع والحيادي في آخر لحظة بين هولير وبغداد «الغموض على معركة كركوك لا زال سيداً على المشهد السياسي!». سقوط مدينة استراتيجية كوردستانية، إنزال علم أمة عريقة. نزوح أكثر من مئة ألف مدني. انتهاكات في الحرمات والحقوق. شهداء وجرحى. غضب شعبي. استياء من الصمت الدولي. إعادة ترتيب الأوراق، التنسيق الداخلي والخارجي أحد أهم الأولويات القيادة. الشعب ينتفض في وجه مَن وقف ضدّ إرادته وحقوقه ومستقبله. هزيمة في صفوف الخونة. دعوات لمحاسبة المخطئين عبر القانون. وضع حدّ لاستحمار واستغباء فئة من الكَتَبة والمثقفين، ادعت الخبرة والتحليل السياسي على وسائل التواصل الاجتماعي… لتعطي كل هذه الأحداث المتتالية والمفاجئة عبارة ”في الأمس كانت ليلة القدر، واليوم ليلة الغدر“.
بعد خيانة 16 أكتوبر هناك حقيقة تاريخية، يجب أن يدركها قادة الدول المحتلة لكوردستان، هي أن كركوك مدينة كوردستانية، وستبقى كوردستانية. إلا أن مسألة استرجاعها في الوقت الراهن، أمر صعب جداً، على المدى المنظور، وتحتاج إلى كثير من الجهد وتغيير القواعد، خاصة أن حكومة بغداد الإيرانية قد تقدِم على تطبيق المادة 140 من دستورها في كركوك، وبإشراف منها وتحت حشوداتها العسكرية، وهو ما قد يؤدي إلى إفضاء نتائج إيجابية لصالح العراق، والكورد في هذه الحالة سيبقون بين خيارين، إما البقاء فيدرالياً أو إعلان الاستقلال والاستعداد للحرب «هل الاستعداد للحرب سيمنع الحرب الكوردية – العربية الإقليمية؟».
أمريكا.. الإمبراطورية العسكرية والقوة الاقتصادية المهيمنة على كل حدث في الشرق الأوسط، وبتوازٍ روسي في تلك المعادلة، هي تخطّط للعبة كبيرة في هذا الشرق المعفّن عربياً «رأسها في إيران بملفّها النووي، وذيلها في الخليج العربي بملف قطر الإرهابي»، ولا نستبعد أن يكون الكورد أحد أبرز ضحاياها، إن لم يتمكنوا من لمّ قوتهم وتنظيمها في مؤسّسات اقتصادية وعسكرية وسياسية، بعيداً عن التنظيمات الحزبية، خاصة وأن هناك فئة أمريكية وأوروبية ترى الكورد أحد أبسط الأدوات وأسهلها مقايضة، والدليل يكمن في أن الغرب يدعم العراق وتركيا وإيران، ضد كوردستان، بعد استفتاء الانفصال «ما السرّ الكامن خلف المعارضة الدولية وخاصة أمريكا من عملية الاستفتاء؟»، متمثلاً بهجوم الحشد الشعبي الشيعي على المناطق المتنازع عليها «أصحيح أنه جرى اتفاق ما بين التحالف الدولي وحكومة كوردستان على العودة إلى خطوط ما قبل 2014، بعد هزيمة داعش؟».
هل الكورد حلفاء استراتيجيين لأمريكا أم أدوات تكتيكية؟ وهل هناك تغيير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الكورد أم أنها تؤسّس معهم لحرب ضد تحجيم إيران؟ وهل استغلت واشنطن قوات البيشمركة كأداة في حروبها بالوكالة في المنطقة، وأنه حان وقت الاستغناء عنها، حفاظاً على مصالحها الاقتصادية وتجارتها للأسلحة الثقيلة مع تركيا وإيران والدول العربية، أم أنه تكتيك أمريكي آخر لجرّ إيران إلى المستنقع العراقي وإغراقها فيه؟ هل دولة كوردستان القادمة أصبحت قضية صراع وتداول في مراكز القوى داخل الإدارة الأمريكية بين تيارين، أحدهما موالٍ للكورد، والآخر له صلات وثيقة مع أدوات إيران في العراق وسوريا، خاصة وأن فرنسا والسويد طالبتنا بتحويل ملف قضية كوردستان إلى مجلس الأمن الدولي؟
أعتقد أن الصمت والحياد الأمريكيّ المُريب حيال تمدّد إيران في كركوك، وتدخل تركيّا في إدلب، كشف عن ازدواجيّة الموقف الأمريكي وتخاذله لحليفه الكوردي في المنطقة، ولا أستبعد أن تؤسّس لبدء صراع جديد مع إيران في الوقت الراهن وتركيا في عام 2023، وعبر البوّابة الكورديّة، يكون الهدف الأول والأهم فيها هو تحقيق مصالحها قبل أيّ شيء آخر «في معركة تحرير الرقة من داعش قتل جندي أمريكي واحد، وما يزيد عن 600 مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية، بحسب تصريح وزير الدفاع الأمريكي. جندي واحد مقابل 600 جندي»، خاصّة إذا ما أدركنا أنّ الأهداف التي حدّدتها الإدارة الأمريكيّة بعد تولّي دونالد ترامب الرئاسة هي محاربة الإرهاب «زرعت الإرهاب، لتحصد منها القوة الاقتصادية، وتبيع أسلحتها، لقطع أغصان هذا الإرهاب وليس جذوره» وتقليص نفوذ إيران في سوريّا والمنطقة عموماً، إلا أننا نفتقر إلى التفكير والوعي، فأمريكا قادرة على تهيئة مناخ استكمال الهلال الشيعي، وبنفس الوقت قادرة على تدميره وإرجاعه من حيث خرج، وهذا الهلال الذي يسعى وراءه إيران تماماً كوثائق اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي وقصص الحريات والديمقراطيات وحق الشعوب في تقرير مصائرها، وتقسيم الشرق الأوسط، التي صرعتنا بها أوروبا وأمريكا، لذا فهي عادت تتحدّث عن حماية الإقليم من أيّ مدّ من طرف الحشد الشعبيّ تجاه المناطق التي تقع تحت سيطرة حكومة كوردستان، وكأنها تريد أن تعاقب القيادة الكوردية التي لم تأخذ بنصيحتها في تأجيل الاستفتاء، إلا أنها أوقفت هذه الورقة مؤقتاً، مراعاة لمصالحها أولاً.
عندما تطالب أمريكا كوردستان بتأجيل الاستفتاء، متذرعة بضرورة هزيمة تنظيم داعش أولاً، ليضيف على هذه المطالبة تصريح وزير خارجيتها ريكس تيلرسون، بأن القوات الأمريكية ستبقى في العراق ريثما يقضى على داعش نهائياً ويتوقف الجيش العراقي على قدميه من جديد، فهذا يدل على أنها لن ترفع يدها عن العراق، وأن داعش بعقيدتها السنّية سينتهي لمجرّد ولادة داعش آخر، ولا يستبعد أن يكون هذا الداعش الجديد داعشاً شيعياً، وتحت اسم الحرس الثوري الإيراني وجناحه في العراق المسمّى بالحشد الشعبي الشيعي، أي أنها تريد رسم توازن جديد بين السنّة والشيعة، تكون الهيمنة هذه المرة شيعية.
وعليه فإن الكورد كانوا في الخطوط الأمامية لمعارك تحرير المدن العراقية، التي سلّم نوري المالكي بعضاً منها إلى تنظيم داعش «قادة بغداد مجرّد بَيادقة بيد طهران، وليسوا أصحاب قرار»، عندما فرّ الجيش العراقي من عناصر التنظيم، فشنّت قوات البيشمركة حرباً على إرهابهم، وأعادت فتح بوابات المدن العراقية من جديد، ومن خلال شجاعتهم وانتصاراتهم تمكّن التحالف الدولي من ضرب فلول داعش جواً، ولكن عندما حان وقت تسوية هذا التنظيم، وقرّر الكورد فضّ الشراكة مع العراق، بعد أن فشل الأخير في احتضان الأول، عارضت أمريكا وبقوة استفتاء الشعب الكوردي على استقلاله، لتحضّ الكورد على إرجاء آمالهم في الاستقلال إلى أجل غير محدّد، فانحاز إلى حكومة حيدر العبادي الطائفية التي تدار في طهران، وليتحالف مع الشيعة ضدّ السنّة والكورد، فكل المؤشرات تدلّ على أن استراتيجية أمريكا تنحو نحو الهيمنة الاقتصادية قبل العسكرية، وهذا هو الأسلوب الجديد الذي تودّ أمريكا تتبعه في الحفاظ على سيطرة إمبراطوريتها، ليس فقط على الشرق الأوسط بل على العالم كله «ما السبب وراء الفشل المتتالي لآخر خمس إطلاقات للصواريخ البالستية لنظام كورية الشمالية، دون أن تعرف كوريا السبب الحقيقي لهذا الفشل؟»، لذا فهي تهتم بالصفقات التجارية أكثر من السيطرة العسكرية، تريد بيع أسلحتها أكثر من استخدامها لحماية حلفائها «ادفعْ أحميك».
وخلاصة الكلام، على الكورد أن يعلموا جيداً أن الأعداء المحيطين بهم سيحاربون إلى ما لا نهاية كل محاولات الشعب الكوردي في التحرّر والاستقلال، لذا فيجب عليهم الابتعاد عن ممارسة السياسة من منطقي العاطفة والتحزبية الازدواجية «لن تُبنى الدولة الكوردية بالمشاعر والأحاسيس، ولا بترك هذا الحزب والانتساب إلى ذاك»، وأن يقفوا صفّاً واحداً ضد كل مَن يخوّن ويطلق أحكام غير مسؤولة، وألا يراهنوا على أمريكا البراغماتية، واعتبارها أقوى حلفاء الكورد منذ بداية التسعينات «مخططات الدول الكبرى لتنفيذ مصالحها في المنطقة أكبر من كل القضايا الوطنية والإنسانية التي يناضل الكورد في سبيلها» وضرورة استخدام الجيل الجديد شبكات التواصل والتفاعل الاجتماعي، وفق الأسس والمعايير التي تأسّست من أجلها، بحيث تكون شبكات للتواصل المنفعي السليم، وليس ساحات للصراع وتأجيج الوضع، لإعمار العقول الناشئة بالعمل الجماعي الجاد والمسؤول لا بالعويل والعاطفة الفارغة.
إن المرحلة الراهنة حسّاسة ودقيقة للغاية، وعلى القيادة الكوردية أن تشخّص ما حدث، وتحدّد أسبابه، وتحاسب المخطئين والخونة بالاحتكام إلى القانون، لتكون عملية استيعاب الحدث ممكنة ومنتجة، فالمطلوب الآن وقبل أي وقت آخر، هو إعادة تعزيز البيت الكوردي عسكرياً وسياسياً واجتماعياً، من خلال توظيفها في المؤسّسات والعمل المؤسّساتي وليس بمحاصصات الكتل الحزبية وتوافقاتها، والاستعداد لمواجهة المفاجئات والأخطار والتحدّيات بشكل مدروس وقوة منظمة، لتتفرّغ القيادة المؤسّساتية لجهودها السياسية مع القوى الإقليمية والدولية، والسعي نحو الاستقلال، كهدف ومشروع، لا تنازل عنه.
كاتب وصحفي من كوردستان