شفان إبراهيم
تتجاوز صدمة إسقاط كركوك، الحدود الجغرافية لجنوب كوردستان. حالة الغليان والألم تجتاح شتى أماكن التواجد الكوردي في الأجزاء وفي المهجر. صدّمة مردها إعادة إشعال جذوة الشعور بمرارة العقود الماضية من خيانات داخلية، وغدراً خارجي في مهاباد واتفاقية الجزائر.
ليس باليسير أن يَقنع الكوردي نفسه صباحاً باعتيادية الأمر، وهو الغافي على أحلام الدولة الكوردية ليلاً، عدا عن الزُمر التي تجدُ في هرطقة خط الكوردايتي وجهة نظر أو إبداعٌ فكري.
تتالي الاتهامات من البيت الداخلي
ما بين كشف الأسماء علانية، وترميزها، وتخوينها، واتهامها بالتسبب بإسقاط كركوك، فإن قيادات الصف الأول من أسرة الاتحاد الوطني الكوردستاني لملمت شتات صفها بتوحيد أرائها صوب اتهام كلً من / بافل، لاهور، هيرو / بالتسبب في كسر الكورد في الحرب الدائرة بينهم وبين الحشد الشعبي والقوات العراقية والدعم الإيراني لهم.
لكن بيان رئاسة الإقليم حاول جاهداً إبعاد شبح الحرب الأهلية عن كوردستان مستنداً على اتفاقه مع الجناح الوطني ضمن الاتحاد الوطني الكوردستاني.
لماذا؟
السؤال الأكثر تكراراً في مُخيلة الكوردي منذ ليلة القبض على كوردستانية كركوك؛ لماذا كل هذا الحقد.
كان الراحل جلال طلباني يُردد دوماً أن كركوك قدس كوردستان، وفي إحدى خطاباته أكد بعواطف جياشة وثابتة، أن كركوك ستعود إلى حضنها ولو بقي كورديٌ واحد فقط. ربما لم يدور في خلده أن ثلاث فقط كان بإمكانهم طمس هوية قدسه.
سعت رئاسة الإقليم بكل جهدها لتوحيد الرؤية الكوردية مجتمعة تحت سقف مطلب واحد، وحزب واحد. وعلى وقعِ التجاذبات السياسية أوضح رئيس الإقليم عن عدم نيته أو أي شخص أخر من أسرته للترشح إلى رئاسة الإقليم مُجدداً.
كُل ذالك لم يشفع للكورد توحدهم. فاختلاف الأرومات والتوجهات الشخصية ضمن الكتل السياسية وبشكل خاص الاتحاد الوطني، دفعتهم لتفضيل الغدر بعد عقود من النضال المشترك مع رفاق دربهم، والغدر بالاتفاق المشترك وترك شركائهم يلقون حتفهم بمفردهم.
عانى الاتحاد الوطني من فراغ كبير وأزمة بنيوية أثناء مرض السيد جلال طالباني، وهو ما ساهم في نشوء تيارات وتصدعات كبيرة ضمن الحزب، عارضت المشروع الكوردي تارةً لخلافات حزبية، وتارةً أخرى ساندته بحسب ظروفها الذاتية والموضوعية،. في الطرف الأخر من الاتحاد الوطني عاش ثُلة من المتحكمين بقسم من قرارات الحزب، شغف الظفر بكامل الكعكة السياسية. قابله ابتكار أعداء المشروع القومي لشتى أنواع الضغوطات والمؤامرات للقضاء عليه. ليس من الغريب أن يصل إلى حد الغدر بدماء شهداء كوردستان.
ماذا الآن
بيان الرئاسة يدعوا إلى إبعاد الإقليم عن شبح وخطر الحرب الأهلية، يؤكده تأخر قوات البشمركة الدخول إلى كركوك بسبب استمرار تواجد عدد كبير من القوات العسكرية الخاضعة لنفوذ /بافل ولاهور/. الوضع الاجتماعي والنفسي في الإقليم لا يتحمل المزيد من تصدعات اجتماعية لما لها من تأثير عميق على مستقبل العلاقات الاجتماعية والنسيج الداخلي، بسبب نمطية العلاقة بين أبناء محافظات الإقليم بعد ما حصل في كركوك بشكل خاص.
القيادة السياسية في الإقليم أحاطت بمحاولة تفتيت كوردستان، وعملية ضبط النفس وعدم الدخول في مواجهة مع قوات مُختلطة كوردية، اتحادية، أفشلت مُخطط الاحتراب الداخلي الكوردي. كما فتتت مخطط أن يبقى الديمقراطي بمفرده في مواجهة قوى الظلام المجتمعة حول ضرورة إبادة دعاة الاستفتاء والدولة الكوردية.
منذ عقود وتحاول الدول الإقليمية إنهاء دور البارزانية في الوسط الكوردي، تشابك العلاقات السياسية والقومية بين الديمقراطي وقسم كبير من الاتحاد الوطني وأطراف حزبية أخرى ضمن لوحة الإقليم السياسية، دفع بحواجز منع إلغاء دورها إلى السطح، ما كان من هؤلاء سوى اللجوء لتفعيل التفتيت الداخلي لشركاء الديمقراطي في العملية السياسية. ما صرح به نجم الدين كريم يوضح حجم المحاولات التي فشلت في جرجرته إلى صف القصاص من الكورد وحلمهم القومي.
لم يدخل الديمقراطي في حرب خاسرة قوامها آلاف الشهداء، وخسارة المدن وبنيتها الداخلية، لكن الحفاظ على أرواح العسكريين في حرب محسومة بالفشل هي النكبة التي رُدت على أعقاب صانعيها
الدور المبهم للحفاء
لا يمكن إنكار الدور الأمريكي في خلق هاجس البعبع الإيراني لدول الخليج وخاصة السعودية. ولا تزال صدى التنازل السعودي وحجم الدعم الاقتصادي لأمريكا بادً للعيان. إيران ترغب بالخط البري الحديدي والحريري بين طهران إلى جنوب لبنان عبر الموصل وشنكال ودمشق، ما يعني جيرة جديدة لأطراف متصارعة، ووقع السعودية بين مناطق ودول حليفة لإيران كالخليج الفارسي، اليمين، العراق.
ثمة اعتقاد ضعيف أن الموقف السعودي المؤيد لعملية كركوك ومباركته للعبادي كان على أمل سحب العبادي من الحضن الإيراني، لكن لو صح هذا الاعتقاد فإن هشاشة الفكر والدبلوماسية السعودية تطفوا بشكل كبير وتعبر عن المقت السعودي، فلا شيء يخرج العبادي والعراق من الحضن الإيراني سوى وجود سد كبير متمثلا بالجغرافية الكوردية، ولا شيء يفتت قوة الشيعة في العراق سوى نظام سياسي جديد متمثلا بالكونفدرالية أو الاستقلال عن العراق.
خاصة وإن تواجد الحشد الشعبي يقوض أي راحة لاركان الدول السنية في المنطقة.
الضربة الموجعة كانت من التحالف والموقف الأمريكي. ربما تعمدت القيادة الكوردية فتح الطريق على مصراعيه أمام قوات الحشد الشعبي لتضمن الخط البري الذي يُرعب إسرائيل والسعودية ودول الخليج الأخرى. استقدام الحل الروسي والمكاسب النفطية الكبيرة، لعلها كانت كافية للتحالف لمعرفة أن الكورد لن يكونوا الضحية الوحيدة.
مصير الاتحاد الوطني الكوردستاني
يؤكد ابرز رموز الاتحاد الوطني على الخيانة التي حصلت. والحزب أمام مفترق طرق. الانحلال نتيجة تشظي الخلافات التي وصلت إلى حد فتح الأبواب واستقبال الأعداء بالورود وترك الشركاء لمصيرهم دون أي رادع أخلاقي أو واعظ قومي. أو انشقاق الاتحاد إلى أكثر من طرف، بعد مواقف ابرز قياداته كــ/نجم الدين كريم، كوسرت رسول، ملا بختيار/ والصمت الغريب للسيد قباد طالباني عن الكارثة، أو إنهاء أي وجود للشخصيات التي تركت الإقليم يعيش أسوء لحظاته. الاتحاد الوطني الكوردستاني يتمتع بثقل جماهيري جيد، ومن ابرز الأحزاب المهمة في تحالفات الديمقراطي الكوردستاني، وعدم التفريط به سواء لحسابات سياسية أو أخلاقية فإن الاتحاد سيبقى كحزب كوردستاني خالٍ من عناصره المشجعة على الإبادة الجماعية كما وصفها السيد كوسرت رسول.
هل خسر الإقليم كل شيء؟
منذ أحداث ليلة 16/10 والى ما تلاها من مستجدات، فأن الإقليم ومع خسارته لجولة مهمة ربما كانت الجولة الأخيرة والنهائية في الصراع على الاستقلال، فإن تغير موقف حكومة المركز من رفض أي حوار إلى قبول الجلوس على طاولة المفاوضات ولو بضغط دولي، ومعلومات عن ترسيم خطوط تماس بين الطرفين، وإدارة مشتركة في كركوك، ومع بروز دور العقود الروسية مع الإقليم لحقول النفط في كركوك، يُعجل من إمكانية البدء بحوار والدخول إلى ساحة استفتاء جديد خاص بالمناطق المتنازع عليها تحت إشراف دولي وعراقي وكوردي.
النكسة حصلت. والكورد تجرعوا مرارة الهزيمة المزدوجة، هزيمة استمرار خيانة التحالفات الداخلية عبر التاريخ، وهزيمة خسارة الجولة الأخيرة. لكن الجولات القادمة لن تقل أهمية عن سابقتها، ولعل التجارب التي خاضها الكورد بعد كل انتكاسة بدأ من محمود الحفيد، وجمهورية مهاباد، وثورة أيلول وانتفاضة كولان وما تلت الهجرة المليونية في التسعينيات ومرارة الاقتتال الداخلي ثم تثبيت فدرالية الإقليم في الدستور العراقي، وحتى تجاوز خلق الأزمات الداخلية من قبل الدول الإقليمية، وصلت إلى خاتمتها عبر سقوط رهان الاقتتال الداخلي وجر الإقليم إلى نظام الإدارتين من جديد.
لا يمكن إلغاء نتائج92% من الشعب الذي طالب بالاستقلال، لكن التجارب الدولية في جنوب السودان، وكوسوفو، والآن في كاتالونيا، تجعل من تلك النتائج كملف مستعد وحاضر دوماً في أي حوارات ونقاشات مقبلة ومستقبلية حول الوضع العالم في العراق.
من فاز ومن خسر، الأمور واضحة. أُسقطت كركوك لتكون الانطلاقة نحو إسقاط الإقليم. لكنه لم يسقط، صحيح أنه خسر بعض المناطق التي قدم فيها 1700شهيد، لكن لا قدرة في العالم بإمكانها أن تواجه الحشد الشعبي والقوات الإيرانية والقوات العراقية وللأسف قسم من القوات الكوردية مجتمعة على هدف واحد. مع ذلك بقي الإقليم بعيداً عن ابر الأهداف والمرامِ السياسية الإقليمية والداخلية.
سيحسب للرئيس مسعود البارزاني انه أجاد إيصال الكورد إلى اللحظة التاريخية في إعلان الاستقلال، وهي الحجج التي تُرقع الوجوه السوداء في فعلتها الشنيعة، بل أن الهجوم والتدخل كان له أن يحدث سواء تم الاستفتاء أو لم يتم، فلم يكن أمام إيران في المنطقة سوى كوردستان بعد أن تتفرغ من معظم الدول التي ترغبها. وسيحسب لشركائه الخيانة التي أقدموا عليها. هذا الرجل اثبت أبرز مقولتين عن الكورد: لا يهزمون في المعارك ما لم تكن الصفقات السياسية موجودة، وهو ما يقودنا إلى الحجل وتشابهه مع الواقع الكوردي، والثانية توازي القوة والمقاومة العسكرية مع الخيانة.
الفرصة لن تعود ثانية، لكن الرمق الأخير لازال موجود، وتغير المواقف الدولية يتسارع في كل لحظة. إما أن ينهض الشعب بانتفاضة شعبية ضد كل من ساهم في كسر المشروع وضد القوات الأجنبية المتواجدة في كوردستان، أو حصول هجرة مليونية جديدة بما لها من أثار سلبية من تغيير ديمغرافية المدن وتعريبها، أو تغير المواقف الدولية باتجاه الإقليم، أو لنقتنع بحدود الإقليم ما بين عامي 2014 إلى 2016 حتى تاريخٍ آخر.
تهديدات إيران وتركيا ضد الديمقراطي الكوردستاني تحديداً، وعموم الأحزاب الكوردستانية الأخرى، لم تأتي بأكلها كما تشتهي أفئدتهم. فالإصرار والثبات على وحدة الموقف منذ بدايات وصول رياح الربيع العربي إلى سوريا، ورفض الإقليم أن يكون جزء من استطالات دعم أطراف إقليمية ضد أطراف أخرى لم تكن لتمر دون جردة حساب.