أحمد إسماعيل اسماعيل
يقر جميع الأحرار العرب بأن الحاكم العربي في كل من العراق وسوريا قد سلب حق المواطن، وأهدر كرامته، ونزع عنه كل ما يمت صلته بالوطن والمواطنة.
ويعلم أن تركيا قد سلبت منطقة كبيرة من سوريا في زمن مضى، وأصرت أن يتنازل الحاكم العربي المعني بذلك في بازار أضنة، في غفلة تاريخية معدة لها بإتقان، وأن سلطانها الجديد أول من وعد الشعب السوري بالوقوف معه في محنته ضد مجازر حاكمه المستبد، ليخذله المرة تلو المرة، وليرهن قرار معارضته التي لجأت إليه، أو استقدمها إليه، بما يخدم مصالح بلده، ويعزز سياسته الداخلية وغير الداخلية.
ويعرف أن إيران أو فارس لم تكتف بالاعتداء على الأرض والجغرافيا العربية، باقتطاع أراض من دولة الإمارات العربية، واستعمار منطقة عربية كبيرة كالأهواز، بل تدخلت عسكرياً في مناطق كثيرة من أرض العرب، ووأدت ثورتهم وشوهت صورتها. وتجاوز القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي الذي مارسته، ولا تزال، إلى تغيير مذاهب الناس وتشييعهم، بكل وسائل العنف!
وفي مقابل ذلك، لم يسجل التاريخ الحديث تجاوز الكُرد، وهنا اتحدث عن كردستان العراق تحديداً، حدودهم، فلم يعتدوا على أرض عربية كالبصرة أو الموصل أو النجف، أو على الشعب العربي في مناطق تواجده، في فعل أو رد فعل على ما حدث لهم من مجازر مرعبة. وما دخولهم في كركوك وغيرها من المناطق سوى لأنهم يعدونها أرض كردستانية، وفق وثائق تاريخية، وهي التي كانت محل بحث وحوار بينهم وبين الحكومة، بل الحكومات السابقة، قبل سقوط نظام صدام وبعده. ولم يتم ذلك في غفلة تاريخية، أو انتهازية في ظرف طارئ.
إن مقارنة بسيطة بين المشروع الكردي والمشروع الإيراني، وحتى التركي، يكشف الفرق الشاسع بين طموح شعب للتحرر، يكتفي بجغرافيا صغيرة تخصه، ليعيش بأمان بعد أن فشلت الشراكة في وطن، فشل سادته في جعله وطناً لا مزرعة، وجعل إنسانه مواطناً لا أجيراً وتابعاً، وبين طمع امبراطوريات ودول في المنطقة لاستعمار هذه الشعوب ونهب خيراتها.
وينسحب هذا الحديث على الحاكم العربي اليوم في كل من دمشق وبغداد، اللذان، أو الذين، لكثرة من يحكم في العاصمتين بصفة رسمية وغير رسمية، ارتهنوا لسياسة سادة طهران، وتحولوا إلى موظفين لهم، ووكلاء يديرون شؤون بلدانهم لصالح هذه الإمبراطورية الطامعة.
الغريب في الأمر أن المثقف العربي المعارض، لا المواطن البسيط، للحاكم الذي أغلق عليه كل الفضاءات، وجعله يعيش حالة اغتراب كبير في وطنه، سرعان ما اندمج، في جوقة الحاكم، على اعتبار أن ذلك يمس أمن الوطن، وجغرافيا هذا الوطن، ولا علاقة لهذه بتلك. عدا قلة من الأسماء الثقافية المعروفة، التي استطاعت أن تحل معادلة الحرية والوطنية بشكل موضوعي. وتكسب رهان مصداقية ما تطرحه من فكر ديمقراطي. نذكر من هؤلاء: الشاعر السوري نوري الجراح والروائي اللبناني إلياس خوري والشاعر فرح بيرقدار والصحفي داغر شربل.
وإذا كان الحاكم العربي قد استطاع أن ينجح في خلط الأوراق الوطنية والقومية والديمقراطية، في معركة العرب مع دولة إسرائيل في القرن الفائت، فذلك لأنه كان قد أحسن ارتداء مسوح الوطنية في ذلك الزمن، ولم يكن عارياً تماماً كما هو عليه اليوم، أو لم يتم كشف عريه بعد، إضافة إلى كون اعتداء الطرف الآخر المتمثل في إسرائيل، صارخاً وواضحاً: اعتداء واغتصاب لا لبس فيه، ليخرج الإنسان العربي وحده من هذه المعركة خاسراً، ويفوز العدو الإسرائيلي والحاكم العربي معاً، في مفارقة ملفتة، الأول اغتصب الأرض، واغتصب الثاني الحكم، ولم يكتف الثاني بذلك، بل أهدر دماء أبناء شعبه أكثر مما أهدرت إسرائيل، وهجر منهم وشرد أكثر مما فعلت إسرائيل!
وهذه مفارقة أخرى!
وها هو ذا الحاكم العربي، وسادته الجدد في فارس، يعود إلى ممارسة اللعبة ذاتها بعد أن تعرى من تلك المسوح الوطنية تماماً، بقصد كسب الرهان مرة أخرى والخروج في مظهر البطل المدافع عن الأرض العربية، ولكن ليس مع مغتصب فعلي لأرض عربية، ولا مع قوى استعمارية، إقليمية أو دولية، استولت على أراض، وقتلت شعوباً، بل مع شعب مغبون، ضحية سياساته الرعناء، إنه ذات الشعب الذي منح صوته في عشرينات القرن الفائت لصالح الانضمام إلى العراق، في رغبة جادة في العيش المشترك مع أخوته العرب، وعاد اليوم، بعد أن فشلت هذه الشراكة بسبب سياسة الحكام الرعناء، ليعلن في استفتاء شعبي ديمقراطي عن فض هذه الشراكة، أو، ربما، تجديديها في صيغة أفضل.
ليس من مبالغة القول بأن نجاح هذه التجربة ستتجاوز الحالة الكردية في تحرير أرض وشعب، لتساهم في كسر الطوق الاستعماري الفارسي بالذات، الذي لا يكف عن التمدد والاستشراء.
لعل تحشيد الشارع العربي ضد الكرد، في الوقت الذي علت الأصوات فيه تصيح وتفضح عري حكامه. مساهمة في دفع عجلة التاريخ إلى الوراء، وجعله يكرر نفسه، كما حدث في ستينيات القرن الفائت، ليتم حقن الحاكم العربي بأكسير الخلود، بعد أن بات سقوطه مسألة وقت وظرف، وتحويله إلى بطل التحرير، بعد أن أصبح مجرماً وقاتلا لشعبه، وتجديد عقد تبعيته لأسياده الجدد.
وبذلك لن يكون الكرد الخاسر الوحيد في هذه المعركة، الذين قرعوا فيها أجراس الحرية لا طبول الحرب، بل الشعب العربي أيضاً.
كردستان هي كردستان، أرض مستعمرة وشعب مغبون، غير أن إيهام الشارع العربي من قبل الإعلام العربي والنخب السياسية والثقافية، بأنها إسرائيل ثانية، سيصنع من هذا الدولة الوليدة، والشعب المسالم، العدو الذي يخشون.
قد يصلح المثل المصري في هذا المقام: اللي يخاف من العفريت يطلع له.
كاتب سوري يقيم في ألمانيا
ملحوظة:
هذا مقال أرسل قبل أسبوع إلى جريدة العرب ولم ينشر. لم أضف له كلمة واحدة.